[تفسير قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)]
قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:١٠٢ - ١٠٣].
قال المصنف رحمه الله: [وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} [البقرة:١٠٢] الآية: وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئات من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، فلما أرجع الله إلى سليمان ملكه، وقام الناس على الدين كما كان، وإن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان عليه الصلاة والسلام حدثان ذلك فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان].
قوله: [حِدثان ذلك]: بكسر الحاء يعني: إثر ذلك، وعقب ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على سليمان فأخفاه عنا، فأخذوا به فجعلوه ديناً، فأنزل الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:١٠١] الآية، واتبعوا الشهوات التي كانت تتلوا الشياطين، وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان، أخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها قال: فأكفره جهال الناس وسبوه، ووقف علماء الناس، فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:١٠٢].
وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب سلمة بن جنادة السوائي حدثنا أبو معاوية].
قوله: [سلمة بن جنادة] لعله سلم، بدون هاء، وهو ثقة وربما خالف.
قال: [حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان سليمان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئاً من نسائه أعطى الجرادة -وهي امرأة- خاتمه، فلما أراد الله أن يبتلي سليمان عليه السلام بالذي ابتلاه به؛ أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال: هاتي خاتمي، فأخذه ولبسه، فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس.
قال: فجاءها سليمان فقال لها: هاتي خاتمي، فقالت: كذبت؛ لست سليمان.
قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به، قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتباً فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها وقرءوها على الناس، وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب، قال: فبرئ الناس من سليمان وكفروه حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:١٠٢].
ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن حصين بن عبد الرحمن عن عمران -وهو ابن الحارث - قال: بينما نحن عند ابن عباس رضي الله عنهما إذ جاء رجل فقال له: من أين جئت؟ قال: من العراق.
قال ومن أيِّه؟ قال: من الكوفة.
قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن علياً خارج إليهم، ففزع ثم قال: ما تقول لا أبا لك؟ لو شعرنا ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه، أما إني سأحدثكم عن ذلك: إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها، فإذا جرب منه صدق كذب معها سبعين كذبة، قال: فتشربها قلوب الناس، قال: فأطلع الله عليها سليمان عليه السلام فدفنها تحت كرسيه، فلما توفي سليمان عليه السلام قام شيطان الطريق فقال: هل أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز له مثله؟ تحت الكرسي.
فأخرجوه، فقال: هذا سحر، فتناسخها الأمم حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق، فأنزل الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:١٠٢]، الآية).
] هذا السند ضعيف؛ لأن فيه ابن حميد، ولا يعول عليه.
وهذه الآثار كلها ضعيفة؛ لأنها من رواية العوفي عن ابن عباس وهي منقطعة، وابن حميد هذا ضعيف، قال البخاري: (فيه نظر)، والبخاري إذا قال في رجل: فيه نظر فهو ضعيف.
والأسانيد الأخرى فيها عنعنة الأعمش، وابن عباس رضي الله عنه ممن يروي عن بني إسرائيل، فهذه الآثار كلها ضعيفة، لكن مجموعها يدل على أن لهذه الأخبار أصلاً، ومعنى الآية واضح، وهو أن الشياطين كذبوا وافتروا على سليمان عليه الصلاة والسلام وادعوا أنه ساحر، فأبطل الله ذلك وبرأ نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام من ذلك، وهذا واضح من الآية، أما هذه الآثار فهي ضعيفة، فلا يعول عليها.
وقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا}، أي: الناس {مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:١٠٢]، فالشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر، وقد افتروا على سليمان وكذبوا عليه بعد وفاته، وقالوا: إنه يعلم الناس السحر، وانطلى هذا على كثير من الناس، فبرأ الله تعالى نبيه سليمان مما ألصقت به الشياطين وافترته وكذبته عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه الحاكم في مستدركه عن أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبد السلام عن إسحق بن إبراهيم عن جرير به.
وقال السدي في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة:١٠٢]، أي: على عهد سليمان، قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا، فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشى ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه.
فلما مات سليمان، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف من بعد ذلك خلف؛ تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفراً من بني إسرائيل فقال لهم: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً؟] يعني: لا ينفد [قالوا: نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسي، فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته، فقالوا له: فادن، فقال: لا ولكنني هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني، فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر، ثم طار وذهب، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها، فذلك حين يقول الله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:١٠٢].
وقال الربيع بن أنس: إن اليهود سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم زماناً عن أمور من التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله سبحانه وتعالى ما سألوه عنه فيخصمهم، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا، وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به فأنزل الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:١٠٢]، وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت كرسي مجلس سليمان، وكان عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب، فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وقد أدحض الله حجتهم.
وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَات