تفسير قوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً)
قال الله تعالى: [وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:١١٢].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر الظالمين ووعيدهم ثنى بالمتقين وحكمهم، وهو أنهم لا يظلمون ولا يهضمون، أي: لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة وغير واحد.
فالظلم: الزيادة بأن يحمل عليه ذنب غيره، والهضم النقص].
وهذا فيه أن الله تعالى أمن عباده من الظلم، كما قال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:١١٢]، والظلم هو: أن يحمل عليه سيئات غيره، والهضم هو: أن ينقص من ثواب حسناته، فالله سبحانه وتعالى أمنه من أن يوضع عليه سيئات غيره، أو ينقص من حسناته.
وهذا فيه دليل على أن الظلم مقدور لله، لكن الله تنزه عنه ونفاه، قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:١١٢]، وقال: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:١٧].
وفي حديث أبي ذر يقول الرب عز وجل: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا) فالظلم يقدر عليه الرب سبحانه وتعالى ولكن الله تنزه عنه، فحرمه على نفسه ونفاه وهو قادر عليه، وهذا خلافاً للجبرية والجهمية والأشاعرة، فإنهم يقولون: إن الظلم غير مقدور لله، والظلم عندهم من الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، وهو عندهم مستحيل، كالجمع بين الضدين، وقالوا: كل شيء يدخل تحت القدرة فليس لله أن يفعله، تعالى الله عما يقولون.
وقالوا: إن لله تعالى أن يقلب التشريعات والجزاءات، فيجعل العفة محرمة، والزنا واجباً، والكفر إيماناً والإيمان كفراً، نعوذ بالله؛ لأن الله يفعل في ملكه ما يشاء، هكذا يقولون، وينكرون الحكمة، وينكرون الحكم، ويقولون إن الظلم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، والظلم لا يكون إلا من مأمور منهي، والله ليس فوقه آمر ولا ناهي، فله أن يفعل ما يشاء، وإذا فعل ما يشاء فلا يكون ظلماً، فلو قلب التشريعات والجزاءات، وأبطل حسنات الأبرار والأنبياء، وحملهم سيئات الفجار، وعذب الأبرار بالنار، لما كان هذا ظلماً؛ لأنه تصرف في ملكه بما يشاء، واستدلوا بقوله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣]، وبقوله صلى الله عليه وسلم: (لو عذب أهل السموات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم)، وهذا من جهلهم وضلالهم؛ فإن الله عز وجل حكيم، والظلم مقدور لله، ولكن الله تنزه عنه، ومعنى قوله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:٢٣] أي: لا يسأل لكمال حكمته؛ لأنه حكيم، فلكمال حكمته لا يسأل.
وقولهم: لو عذب أهل السموات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم، أي: أنه لو حاسب الله عباده بأعمالهم وبنعمه عليهم لكانوا مدينين له، وحينئذ لو وضع عدله فيهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم، لكنه سبحانه لا يفعل ذلك.
فالجبرية مذهبهم باطل، فإنهم يقولون: الظلم هو الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، وعلى عكسهم المعتزلة والقدرية، فإنهم يقولون: الظلم: كل ما كان من العبد ظلماً وقبيحاً، فيكون ظلماً وقبيحاً من الله تعالى، وأهل السنة قالوا: الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وهو أن يحمل أحداً أوزار غيره، أو يمنعه من ثواب عمله، كما في هذه الآية: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:١١٢]، فالظلم تنزه عنه الرب سبحانه، ونفاه، وحرمه على نفسه، وهو قادر.