للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (قال آمنتم به قبل أن آذن لكم)]

قال الله تعالى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:٧١ - ٧٣]].

وهناك فرق كبير وبون شاسع بين قول السحرة قبل أن يؤمنوا وبعد أن آمنوا، فقد قالوا قبل الإيمان لفرعون: ماذا ستعطينا إذا غلبنا موسى؟ {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:٤١ - ٤٢]، ويقول بعضهم كذلك: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} [طه:٦٤] وأما قولهم بعد الإيمان: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:٧٢] أي: افعل ما تريد يا فرعون،: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:٧٣]، قالوا: إن هذه الدنيا منقضية مهما كان الحال، ولو عشنا فإنها سوف تنقضي، {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:٧٢]، فهي منقضية ونحن على الإيمان ثابتون لا يهمنا أي شيء تعمله، فالموت موت واحد، ثم ذكروا: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:٧٤ - ٧٥].

وقوله: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه:٧٢] أي: لن نؤثر العاجلة وهي الدنيا، ونؤثر سحرك على ما ظهر لنا من البينات، ولن نؤثر الدنيا على الآخرة، والذي يؤثر الدنيا على الآخرة ليس بمسلم.

وقوله: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:٧٢] أي: اصنع ما تصنع، فمهما توعدت ومهما فعلت فالنهاية هي الموت ولا شيء غير الموت، والموت لابد منه، ونحن سنثبت على الحق ونموت على الحق مهما توعدت ومهما فعلت، ((فاقض ما أنت قاض)) أي: افعل ما أنت فاعل، فلا تستطيع فعل ما هو أكثر من الموت.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن كفر فرعون وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة والآية العظيمة، ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم، وغلب كل الغلب، شرع في المكابرة والبهت، وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة].

وهذه عادة المنهزم فإذا عجز عن الحجة لجأ إلى القوة، وهذه عادة المبتدعين فهم يلجئون إلى القوة، كما كان حال المعتزلة في زمن المأمون الذين يقولون: إن القرآن مخلوق، فقد ناظروا الإمام أحمد رحمه الله، فلما غلبهم بالحجة استعدوا عليه السلطان، وقالوا: إن هذا مبتدع، وإنه يضل الناس، حتى قال أحمد بن أبي دؤاد رئيس المعتزلة في زمن المأمون: اقتل الإمام أحمد ودمه في ذمتي، فعادة الكفرة والمبتدعة إذا عجزوا عن المجادلة والمناظرة استعدوا السلاطين والأمراء على أهل الحق، وهذا هو العجز بعينه، وهذا حال من لم يستطع أن يدفع الحجة بالحجة.

وهكذا تجد المنافقين في كل زمان يستعدون السلطة على المؤمنين وعلى الأخيار.

قال المؤلف رحمه الله: [فتهددهم وتوعدهم، وقال: {قَالَ آمَنْتُمْ} [طه:٧١] أي: صدقتموه ((قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ)) أي: وما أمرتكم بذلك، وافتئتم علي في ذلك].

يقول: تفتائتون في هذا الأمر، أي: تعملون أمراً يخالف أمري ولم تستشيروني؟ فالأمر لي والسلطة لي، فكيف تعلمون شيئاً دون مشورتي وأخذ رأيي، فهو يوبخهم على فعلهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قولاً يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:٧١] أي: أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى، واتفقتم أنتم وإياه علي وعلى رعيتي لتظهروه، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:١٢٣]].

يقول فرعون للسحرة: لقد اتفقتم مع موسى على هذا، فقد حصل بينكم وبينه اتفاق، وهو كبيركم وقد علمكم السحر، واتفقتم معه في أمر مسبق على أن تنهزموا أمامه، حتى يظهر موسى، وتكونوا من أتباعه، وهو يعلم أن هذا بهتان وكذب، لكن المغلوب ليس له إلا أن يستعمل قوته وسلطانه، فقال: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:١٢٤].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم أخذ يتهددهم فقال: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:٧١] أي: لأجعلنكم مُثلة، ولأقتلنكم ولأشهرنكم، قال ابن عباس: فكان أول من فعل ذلك، رواه ابن أبي حاتم.

وقوله: ((وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى)) أي: أنتم تقولون: إني وقومي على ضلالة، وأنتم مع موسى وقومه على الهدى فسوف تعلمون من يكون له العذاب ويبقى فيه، فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل، و ((قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ)) أي: لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين، ((وَالَّذِي فَطَرَنَا))، يحتمل أن يكون قسماً، ويحتمل أن يكون معطوفاً على البينات].

يحتمل أن يكون معنى قولهم: لن نؤثرك على البينات وعلى الذي فطرنا وهو الله، ويحتمل أن يكون: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه:٧٢]، ثم استأنفوا كلاماً جديداً فقالوا: ((وَالَّذِي فَطَرَنَا)) وقصدهم الحلف بالله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يعنون لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم المبتدي خلقنا من الطين، فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت، {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:٧٢] أي: فافعل ما شئت وما وصلت إليه يدك {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:٧٢] أي: إنما لك تسلط في هذه الدار وهي دار الزوال، ونحن قد رغبنا في دار القرار {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} [طه:٧٣] أي: ما كان منا من الآثام خصوصاً ما أكرهتنا عليه من السحر لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:٧٣] قال: أخذ فرعون أربعين غلاماً من بني إسرائيل فأمر أن يعلموا السحر بالفرماء].

أي: مكان يتعلم فيه هؤلاء الشباب السحر.

يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: علموهم تعليماً لا يعلمه أحد في الأرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فهم من الذين آمنوا بموسى وهم من الذين قالوا: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:٧٣]، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقوله: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) أي: خير لنا منك ((وَأَبْقَى)) أي: أدوم ثواباً مما كنت وعدتنا ومنيتنا، وهو رواية عن ابن إسحاق رحمه الله.

وقال محمد بن كعب القرظي: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ)) أي: لنا منك إن أطيع، ((وَأَبْقَى)) أي: منك عذاباً إن عصي.

وروي نحوه عن ابن إسحاق أيضاً، والظاهر أن فرعون لعنه الله صمم على ذلك وفعله بهم رحمة لهم من الله].

وكأن المسألة فيها قولان: قول بأنه نفذ ما توعد به وقتلهم، والقول الثاني إنه تهدد ولم ينفذ، فقال ابن كثير رحمه الله: الظاهر أنه نفذ وأنه قتلهم، وهذا رحمة من الله بهم حتى يصلوا إلى ما أعد الله لهم من النعيم، ويستريحوا من تعب الدنيا ونصبها، ولهذا جاء في الحديث: (أنه مر بجنازة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مستريح ومستراح منه، فقالوا: يا رسول الله ما مستريح ومستراح منه؟ فقال: المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها وتعبها، والكافر أو الفاجر يستريح منه الناس والشجر والدواب)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء].