[تفسير قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله)]
قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:٧٩] الآية.
هؤلاء صنف آخر من اليهود، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله وأكل أموال الناس بالباطل].
واليهود أصناف كما ذكر الله، فصنف: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة:٧٥].
والصنف الثاني: المنافقون، قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا} [البقرة:١٤]، والصنف الثالث: الأميون، قال تعالى: {أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:٧٨]، وهذا الصنف الرابع: أهل الزور والبهتان، الذين: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة:٧٩].
قال المصنف رحمه الله: [والويل: الهلاك والدمار، وهي: كلمة مشهورة في اللغة.
وقال سفيان الثوري عن زياد بن فياض سمعت أبا عياض يقول: ويل صديد في أصل جهنم، وقال عطاء بن يسار: الويل واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره).
ورواه الترمذي عن عبد الرحمن بن حميد عن الحسن بن موسى عن أبي لهيعة عن دارج به].
وهو ضعيف؛ لأن ابن لهيعة ضعيف، وأيضاً دراج عن أبي الهيثم ضعيف.
ولا يصح تفسير الويل بأنه واد في جهنم.
والصواب: أنه كلمة وعيد، والمراد به شدة العذاب والهلع.
وهذه الأصناف لا تجتمع في واحد؛ لأن فيها الأميون الذين لا يعلمون الكتاب إلا مجرد التلاوة، وفيها طائفة يحرفون الكلام عن قصده، وهم يعلمون.
قال المصنف رحمه الله: [وقال: هذا الحديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة، قلت: لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى، ولكن الآفة ممن بعده.
وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوعاً منكر، والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى حدثنا إبراهيم بن عبد السلام حدثنا صالح القشيري حدثنا علي بن جرير عن حماد بن سلمة عن عبد الحميد بن جعفر عن كنانة العدوي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:٧٩] قال: (الويل جبل في النار)، وهو الذي أنزل في اليهود؛ لأنهم حرفوا التوراة، زادوا فيها ما أحبوا ومحوا منها ما يكرهون، ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة، ولذلك غضب الله عليهم فرفع بعض التوراة، فقال تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:٧٩]، وهذا غريب أيضاً جداً.
وعن ابن عباس: الويل: المشقة من العذاب.
وقال الخليل بن أحمد: الويل: شدة الشر.
وقال سيبويه: ويل لمن وقع في الهلكة، وويح لمن أشرف عليها.
وقال الأصمعي: الويل تفجع والويح ترحم.
وقال غيره: الويل: الحزن.
وقال الخليل: وفي معنى ويل: ويح وويش وويه وويك وويب، ومنهم من فرق بينها.
وقال بعض النحاة: إنما جاز الابتداء بها وهي نكرة؛ لأن فيها معنى الدعاء.
ومنهم من جوز نصبها بمعنى: ألزمهم ويلاً.
قلت: لكن لم يقرأ بذلك أحد.
وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة:٧٩]، قال: هم أحبار اليهود.
وكذا قال سعيد عن قتادة: هم اليهود.
وقال سفيان الثوري: عن عبد الرحمن بن علقمة سألت ابن عباس رضي الله عنه عن قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة:٧٩] قال: نزلت في المشركين وأهل الكتاب.
وقال السدي: كان ناس من اليهود كتبوا كتاباً من عندهم يبيعونه من العرب ويحدثونهم أنه من عند الله فيأخذوا به ثمناً قليلاً.
وقال الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أنه قال: يا معشر المسلمين! كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتاب الله الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله تقرءونه غضاً لم يشب].
والصواب: محضاًً، كما رواه البخاري في صحيحه، و (محضاً لم يشب) يعني: خالصاً لم يصب بغيره.
وروي بلفظ: (أقرب الكتب عهداً بالله) كما قال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:٢] يعني: عندكم كتاب الله آخر الكتب نزولاً من عنده، ثم تسألون أهل الكتاب، وهذا إنكار من ابن عباس.
وقال في آخره: (فلا والله ما رأينا أحداً منهم يسألكم عما في الكتاب، فكيف تسألونهم أنتم؟) وعندكم كتاب الله محض لم يشب، ولم يختلط بغيره، وإنما هو محفوظ.
قال المصنف رحمه الله: [وقد حدثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله؛ ليشتروا به ثمناً قليلاً، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟! ولا والله ما رأينا منهم أحداً قط سألكم عن الذي أنزل عليكم، رواه البخاري من طرق عن الزهري.
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: الثمن القليل: الدنيا بحذافيرها].
فالدنيا كلها مهما عظمت ثمن قليل، ولو أعطوا الدنيا كلها من أولها إلى آخرها فذلك ثمن قليل لا تساوي شيئاً.
وفي الحديث: (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:٧٩] أي: فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان والافتراء، وويل لهم مما أكلوا به من السحت.
كما قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَوَيْلٌ لَهُمْ} [البقرة:٧٩] يقول: فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:٧٩] يقول: مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم].