للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكمة إيراد الحروف المقطعة في أوائل السور]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [المقام الآخر: في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ما هي مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها].

المقصود: أن معناها لا نعلمه، لكن ما الحكمة في إيرادها؟ فهذا مقام غير المقام الأول، فالمقام الأول مقام المعنى، وأسلم الأقوال وأصحها أن الله أعلم بمعناها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقال بعضهم: إنما ذكرت ليعرف بها أوائل السور، حكاه ابن جرير، وهذا ضعيف؛ لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه، وفيما ذكرت فيه البسملة تلاوة وكتابة].

أي أن الفصل معروف في السورة، حيث تنتهي وتبدأ السورة الأخرى بالبسملة، ما عدا سورة براءة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال آخرون: بل ابتدئ بها لتفتح لاستماعها أسماع المشركين؛ إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن حتى إذا استمعوا له تلي عليهم المؤلف منه، حكاه ابن جرير أيضاً، وهو ضعيف أيضاً؛ لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور، لا يكون في بعضها، بل غالبها ليس كذلك، ولو كان كذلك -أيضاً- لانبغى الابتداء بها في أوائل الكلام معهم، سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك، ثم إن هذه السورة والتي تليها -أعني البقرة وآل عمران- مدنيتان ليستا خطاباً للمشركين، فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه.

وقال آخرون: بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا وقرره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية].

الصواب أن الحكمة من إيرادها بيان إعجاز القرآن، وأن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف الهجائية؛ لأنه نزل بلغة العرب المكونة من ثمانية وعشرين حرفاً، ومع ذلك فقد عجز البشر عن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله، وهو من هذه الحروف الهجائية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الزمخشري: ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة، وكرر التحدي بالصريح في أماكن.

قال: وجاء منها على حرف واحد كقوله: (ص، ن، ق)، وحرفين مثل: (حم)، وثلاثة مثل: (الم)، وأربعة مثل: (المر)، و (المص)، وخمسة مثل: (كهيعص، وحم عسق)؛ لأن أساليب كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك.

قلت: ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن].

هذا من الحافظ تأييد لما نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية وعدد من العلماء، فهو يؤيد كونها لبيان إعجاز القرآن؛ لأن كل سورة افتتحت بهذه الحروف يأتي بعدها الانتصار للقرآن.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا كل سورة اقتتحت بالحروف فلابد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة، ولهذا يقول تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:١ - ٢]، {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران:١ - ٣]، {المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف:١ - ٢]، {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم:١]، {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:١ - ٢]، {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:١ - ٢]، {حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى:١ - ٣]، وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر، والله أعلم].

وهذا التأييد للترجيح، فإن قيل: قوله تعالى: {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:١ - ٣] لم نر فيه انتصاراً للقرآن وبيان إعجازه بعد الحروف المقطعة! قلنا: إن فيه تلويحاً بذكر القرآن، حيث قال: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم:٢] يعني: في هذا القرآن.

والنص غير صريح على القرآن، لكن الله تعالى ذكر القصة في هذا القرآن، وهي قصة واقعة ومعروفة، ويتكلم بها الإنسان بأسلوبه، ومع ذلك يأتي القرآن بذكر القصة، والبشر لا يستطيعون أن يأتوا بمثل كلام الله حينما قص علينا هذه القصص.