[ذكر أهوال البعث والنشور والحساب والجزاء]
فهذا اليوم -وهو يوم القيامة- يوم عظيم، يوم تسير فيه الجبال، ويبعث الناس من قبورهم، وينفخ في الصور بعد أن ينزل الله مطراً تنبت منه أجساد الناس، وينشئون تنشئة غير هذه التنشئة، فالذوات يعيدها الله، ويركب الإنسان من عجب الذنب، وهو العصعص آخر فقرة في العمود الفقري، وهو لا يبلى، قال عليه الصلاة والسلام (كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم ومنه يركب)، فيبقى العصعص لا تأكله الأرض، ومع هذا تأكل الأرض الأجساد ثم يعيدها الله؛ لأن الله عليم بذلك وقادر، كما قال سبحانه وتعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٨ - ٧٩].
فهو سبحانه وتعالى يقرر إثبات الإعادة بكمال علمه وكمال قدرته، وهو عالم بالذرات التي استحالت، وهو قادر على إعادتها، وله الحكمة البالغة، فيعيد الناس ويبعثهم ليجازي كلاً بعمله، فإن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، فيأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور النفخة الأولى، فيصعق الناس فيموتون إلا من شاء الله، ثم ينزل الله مطراً تنبت منه أجساد الناس، وينشئ نفس التنشئة، وتبدل الصفات والذوات، فإذا اكتمل خلقهم أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور النفخة الثانية، فعادت الأرواح إلى أجسادها؛ لأن الأرواح باقية لا تموت، والمؤمن إذا مات كانت روحه في الجنة ولها صلة بالجسد، والكافر إذا مات وكانت روحه في النار ولها صلة بالجسد، والجسد يبلى، وأجساد الأنبياء لا تبلى، فقد حرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية عادت الأرواح إلى أجسادها، وقام الناس من قبورهم، فينفضون التراب عن رءوسهم واقفين بين يدي الله حفاة لا نعال لهم عراة لا ثياب عليهم، غرلاً غير مختونين، فالجلدة التي قطعت من أعلى الذكر تعود إليه، فيعود الناس على هذه الحال شاخصة أبصارهم إلى السماء، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم:٤٢].
وقد قالت عائشة: لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبرها بحشر الناس عراة: وسوأتاه! والرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض! فقال لـ عائشة: (الأمر أشد من ذلك)، أي: أهم من ذلك، فكل شخص بصره إلى السماء تهمه نفسه، ولا أحد يلوي على أحد، كما قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:٣٣ - ٣٧].
فلا أحد يلوي على أحد، والإنسان إذا دهش وأصابه فزع شديد تجده لا يحس بما هو أمامه، وتجده يلقى بعض الناس ولا يحس، فيقول بعض الناس: لقيته فلا هو سلم علي ولا رد السلام.
لأنه مندهش، وهذا بسبب شدة الفرح أو شدة الحزن، فكيف بأهوال يوم القيامة؟! فلا أحد يلوي على أحد ولا أحد ينظر إلى أحد، والمقام ليس بمقام نظر، بل هو مقام شدة وهول، فكل تهمه نفسه، وكل يريد أن يتخلص، ويقف الناس على هذه الحال بين يدي الله عز وجل في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وتدنو الشمس من الرءوس ويزاد في حرارتها، فيصيبهم العرق على حسب الأعمال، ويموج الناس بعضهم في بعض، ويفزع بعضهم إلى بعض يسألون الشفاعة، فيأتون إلى آدم يسألونه الشفاعة فيعتذر ويقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟! فيعتذر بأنه أكل من الشجرة، ويأمرهم بأن يذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، وصفك الله بأنك عبد شكور اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! فيعتذر ويقول: إنه دعا على أهل الأرض دعوة أغرقتهم، ويقول لهم: اذهبوا إلى إبراهيم؛ فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم، ويقولون: يا إبراهيم! أنت خليل الرحمن، اشفع لنا إلى ربك.
فيعتذر ويقول: كذبت بلساني ثلاث كذبات.
وهي قوله في زوجته: هي أختي، وهي أخته في الإسلام، ولما وضع الفأس على الصنم الكبير قال: هو هذا الذي كسر أصنامكم، والثالثة حين نظر في النجوم وقال: إني سقيم فيعتذر إبراهيم ويرشدهم إلى موسى عليهما السلام، فيقول: اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: أنت كليم الله، فيعتذر ويقول: إن ربي غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها -يعني: قتله القبطي قبل النبوة- ولكن اذهبوا إلى عيسى، فيعتذر عيسى فيقول: اذهبوا إلى محمد؛ فإنه خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها، فيذهب فيسجد تحت العرش فيفتح الله عليه بمحامد لا يحسنها في دار الدنيا، فيأتيه الإذن من الرب، ويقول الرب عز وجل: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع.
فهذا هو الإذن ولابد من الإذن، حتى في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق، فمن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، فلا أحد يشفع إلا بإذنه سبحانه، بخلاف الملوك والرؤساء والأمراء في الدنيا، فكل يدخل عليه ويشفع عنده من دون إذنه، أما الله فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يشفع إلا فيمن رضيه الله، وهم أهل التوحيد ممن زاد الله في قوله وعقله، فيشفع الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيقضي بين العباد، ويحاسبهم سبحانه وتعالى ويفرغ من حسابهم في منتصف النهار، ويقيل أهل الجنة في الجنة قيلولة، قال الله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:٢٤]، وتتطاير الصحف، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، وتنصب الموازين لزنة الأعمال، وينصب الصراط على متن جهنم، ويمشي الناس عليه، فمن جاوزه فإلى الجنة، ومن سقط فإلى النار نسأل الله السلامة والعافية.
وفي الجنة لأهلها أرائك، وفرق بين الحجلة والأريكة، فالحجلة: هي القبة ليس فيها سرير، وإذا كان فيها سرير في وقتها سميت أريكة، وتسمى (بشخانة) باللغة الفارسية.
وفي الحديث: (أَلا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أَرِيكَتِه فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله) والأَرِيكة: السرير في الحَجَلة من دونه سِتْر، ولا يسمَّى منفرداً أَريكةً، وقيل: هو كُلّ ما اتُّكِئَ عليه من سرير أَو فِراش أَو مِنَصَّةٍ.
والظاهر أن الأريكة هي السرير في وسط الحجلة، فأهل الجنة على سرر وفي قبب من ذهب ومن فضة ومن زمرد تسمى بشخانة، وهي كلمة فارسية اشتهرت في زمن الحافظ ابن كثير، وزمن الحافظ ابن القيم، فكانت تسمى في زمانهم (بشخانة)، والبشخانة باللغة الفارسية هي الأريكة، ذكرها ابن القيم في صفة الجنة في الكافية الشافية، فقال: تسمى (بشخانة) في اللغة الفارسية.
وفي يوم القيامة تسير الجبال، كما قال الله {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف:٤٧]، هذه الجبال الثقيلة تكون كالعهن المنفوش، وكالصوف المتناثر في الهواء من شدة الهول، وتبدل الأرض غير الأرض كما يبدل الأديم، ويزال ما عليها من بناء وغيره، وتكون قاعاً صفصفاً مستوية {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:١٠٧]، فتكون الأرض بارزة والناس بارزين ضاحين، والشمس فوق رءوسهم يزاد في حرارتها، إلا الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم سبعة، ففي الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، فهؤلاء السبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، والباقون في الشمس، فيصيبهم العرق على حسب الأعمال، فمنهم من يصيبه العرق إلى ركبتيه، وإلى حقويه، وإلى حلقه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ومنهم من يذهب عرقه مسافات في الأرض على حسب الأعمال، والأرض تكون بارزة، ويحشرهم الله، قال تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:٤٧]، وعرضوا على الله صفاً كل واحد منهم ينتظر ما يحصل له، وهو يعرف أن الله تعالى يقول: (إني خلقتكم وأنصت لكم منذ خلقتكم، فأنصتوا لي) ويوبخ الكفرة الذين ينكرون البعث، فيقول تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} [الكهف:٤٨]، أي: إن كنتم تنكرون البعث وتظنون أنه لا يحصل هذا الموعد.
ثم يوضع الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ولا الفتيل والقطمير.