تفسير قوله تعالى: (إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:١٠٦] أي: إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم لبلاغًا لمنفعة وكفاية لقوم عابدين، وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم.
وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧] يخبر تعالى أن الله جعل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، أي: أرسله رحمة لهم كلهم، فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة، ومن ردها وجحدها خسر الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم:٢٨ - ٢٩].
وقال تعالى في صفة القرآن: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:٤٤].
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن ابن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: (يا رسول الله، ادع على المشركين، قال: إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة) انفرد بإخراجه مسلم].
إن لعن العصاة والكافرين والمشركين إذا كان على وجه العموم فلا بأس به؛ لأن الله تعالى لعنهم في كتابه فقال: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:١٨]، وقال: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:٨٩] وقال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء)، وقال: (لعن الله شارب الخمر وعاصره) وقال: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده)، لكن لعن المعين لا يجوز، ومثال ذلك في رجل تعرفه يشرب الخمر فلا تعلنه بعينه، ولهذا لما جيء برجل قد شرب الخمر وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلده، وكان كثيراً ما يجلد، قال: رجل من القوم: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله).
فالصواب أنه لا يلعن المعين، لكن يجوز اللعن للوصف، كأن تقول: لعن الله من شرب الخمر، لعن الله الكفرة، لعن الله اليهود، لعن الله النصارى، لعن الله السراق.
أما فلان ابن فلان السارق، أو فلان ابن فلان الشارب فلا يجوز لعنه على الصحيح.
وساء قوله من كان لعاناً، أعني اللعن الخاص، فإن بعض الناس تجده يلعن فلاناً، ويلعن فلاناً على الدوام، وقد لعنت امرأة ناقة لها؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركها وأخذ ما عليها وقال: (لا تصحبنا ناقة ملعونة).
وفي الحديث الآخر: (إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة)، أما لعن من لعنه الله ورسوله، فهذا لا بأس به.
فإن قيل: هل يقر من يلعن المتبرجات ويخص بعضهن بالذكر؟ ف
الجواب
أنه لا يقر، وإنما يجوز لعن المتبرجات على العموم، ولا يقل: لعن الله فلانة بنت فلان.
إذ قد لعن الله المتبرجات، أما تعيين فلانة من النساء فلا يجوز على الصحيح؛ لأنها قد تتوب، وقد لا يكون بلغها النص؛ ولأن اللعن يعني الطرد من رحمة الله.
فلا تلعن ولكن تنصح ويدعى لها بالاستقامة والثبات، وكذلك إذا رأى إنسان يشرب الدخان فلا يلعنه، ولكن يدعو له وينصحه.
وكذلك لعن المشرك المعين لا يجوز على الصحيح، إلا من اشتد أذاه لهم، وذلك لكونه اعتدى عليهم.
وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن دوساً عصت وأبت فادع الله عليهم، فقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم).