للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقوال المفسرين في حقيقة المن]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: ((وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ)) اختلفت عبارات المفسرين في المن ما هو: فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان المن ينزل عليهم على الأشجار، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا.

وقال مجاهد: المن: صمغة.

وقال عكرمة: المن: شيء أنزله الله عليهم مثل الطل، شبه الرُّب الغليظ.

وقال السدي قالوا: يا موسى! كيف لنا بما هاهنا أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن، فكان يسقط على شجرة الزنجبيل، وقال قتادة: كان المن ينزل عليهم في محلهم سقوط الثلج، أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق، حتى إذا كان يوم سادسه يوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته، ولا يطلبه لشيء، وهذا كله في البرية.

وقال الربيع بن أنس: المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه.

وقال وهب بن منبه وسئل عن المن، فقال: خبز رقاق مثل الذرة أو مثل النقي.

وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني أحمد بن إسحاق البزار حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا إسرائيل عن جابر الجعفي عن عامر وهو الشعبي، قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءاً من المن.

وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه العسل.

ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت حيث قال: فرأى الله أنهم بمضيع لا بذي مزرع ولا مثمورا فسناها عليهمُ غاديات ويرى مزنهم خلايا وخورا عسلاً ناطفاً وماء فراتاً وحليباً ذا بهجة مزموراً].

يعني: أن المن كان ينزل من السماء كالطل على شجر أو حجر، ويحلو ويعقد عسلاً، ويجف جفاف الصمغ كالشيرخشت والترنجبين.

والمعروف أن المن هو ما وقع على شجر البلوط، وهو معتدل نافع للسعال الرطب والصدر والرئة.

وقد جاء في الحديث الصحيح: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين) يعني: المن شيء ينزل ويشبه العسل، ويستعملونه للأكل والحلوى، فهو نعمة امتن الله بها عليهم، وهو مأكول يشبه العسل، ويستعمل مع غيره ويستفاد منه، وأما اللحم فأنزل الله عليهم السلوى وهو طائر، فالله أعطاهم نوعاً من الطعام ونوعاً من اللحوم، فالسلوى طائر، والمن طعام، وكان المن يغنيهم عن الطعام، فهو يشبه العسل، فهو طعام وحلوى.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فالناطف هو السائل، والحليب المزمور الصافي منه، والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن، فمنهم من فسره بالطعام، ومنهم من فسره بالشراب، والظاهر والله أعلم أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد].

يعني: أن المن طعام وشراب كان يأتي عليهم وليس لهم فيه تعب، فكان ينزل عليهم من السماء، كما أن السلوى طائر ليس لهم فيه يد، وهذا من منة الله تعالى عليهم، فيأتيهم طعام لذيذ وشراب وحلوى، ويأتيهم أيضاً من اللحوم وهو هذا الطائر السلوى من غير كد ولا تعب.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فالمن المشهور إن أكل وحده كان طعاماً وحلاوة، وإن مزج مع الماء صار شراباً طيباً، وإن ركب مع غيره صار نوعاً آخر، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده، والدليل على ذلك قول البخاري: حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عمرو بن حريث عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)].

يعني: المن هو طعام وشراب لذيذ امتن الله به عليهم، وكان يكفيهم عن الطعام والشراب.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك وهو ابن عمير به، وأخرجه الجماعة في كتبهم إلا أبا داود من طرق عن عبد الملك وهو ابن عمير به، وقال الترمذي: حسن صحيح.

ورواه البخاري ومسلم من رواية الحكم عن الحسن العرني عن عمرو بن حريث به، وقال الترمذي: حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غيلان قالا: حدثنا سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم، والكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)، تفرد بإخراجه الترمذي، ثم قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن محمد بن عمرو، وإلا من حديث سعيد بن عامر عنه.

وفي الباب عن سعيد بن زيد وأبي سعيد وجابر كذا قال.

وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من طريق آخر عن أبي هريرة، فقال: حدثنا أحمد بن الحسن بن أحمد البصري حدثنا أسلم بن سهل حدثنا القاسم بن عيسى حدثنا طلحة بن عبد الرحمن عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)، وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وطلحة بن عبد الرحمن هذا السلمي الواسطي يكنى بـ أبي محمد، وقيل: أبو سليمان المؤدب، قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي: روي عن قتادة أشياء لا يتابع عليها].

أول الحديث ثابت في البخاري كما سبق: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)، وإن كان هذا الطريق فيه كلام.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة: (أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: الكمأة جدري الأرض، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم)].

هذا الحديث ضعيف منقطع؛ لأن شهر بن حوشب لم يسمع من أبي هريرة، وقوله: (الكمأة جدري الأرض) هذا الذي استنكر منه، وأما: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين) فهو ثابت في البخاري.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الحديث قد رواه النسائي عن محمد بن بشار به، وعنه عن غندر عن شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة به، وعن محمد بن بشار عن عبد الأعلى عن خالد الحذاء، عن شهر بن حوشب، بقصة الكمأة فقط.

وروى النسائي أيضاً وابن ماجة من حديث محمد بن بشار عن أبي عبد الصمد بن عبد العزيز بن عبد الصمد عن مطر الوراق عن شهر: بقصة العجوة عند النسائي، وبالقصتين عند ابن ماجة، وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة، فإنه لم يسمع منه، بدليل ما رواه النسائي في الوليمة من سننه عن علي بن الحسين الدرهمي عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي هريرة قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة، وبعضهم يقول: جدري الأرض، فقال: الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)].

يعني: صار عبد الرحمن بن غنم بين شهر وأبي هريرة، فدل على أن شهراً لم يسمع من أبي هريرة، وشهر بن حوشب فيه كلام، فالرواية الأولى منقطعة، وشهر منهم من وثقه ومنهم من ضعفه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر، كما قال الإمام أحمد: حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم).

وقال النسائي في الوليمة أيضاً: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين