للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون)]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى جواباً لهم ومقابلة على صنيعهم: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:١٥].

وقال ابن جرير: أخبر الله تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:١٣]، وقوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:١٧٨].

قال: فهذا وما أشبهه من استهزاء الله -تعالى ذكره- وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ومتأول هذا التأويل].

أي أن قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:١٥] معناه: أنه يجازيهم على استهزائهم في مقابل أعمالهم، وهو كقوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:٥٤] وهذا من باب الخبر.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه، والكفر به.

قال: وقال آخرون: هذا وأمثاله على سبيل الجواب، كقول الرجل لمن يخدعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه، قالوا: وكذلك قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:٥٤]، وقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:١٥] على الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء، والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم.

وقال آخرون: قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:١٤ - ١٥]، وقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:١٤٢]، وقوله: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:٧٩]، وقوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:٦٧] وما أشبه ذلك إخبار من الله تعالى أنه يجازيهم جزاء الاستهزاء، ويعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان، كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:٤٠]، وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة:١٩٤]، فالأول ظلم والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما].

وعلى هذا يكون هذا من باب الخبر عن الله، ولا يشتق من هذا صفات لله، ولا يقال: إن من صفات الله: المستهزئ، أو الساخر، أو الماكر، أو الكائد، وإنما هذا من باب المقابلة والإخبار، أي أن الله تعالى يقابلهم ويجازيهم على أعمالهم السيئة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك.

قال: وقال آخرون: إن معنى ذلك أن الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم قالوا: إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما نحن بما نظهر لهم من قولنا لهم: (صدقنا بمحمد -عليه السلام- وما جاء به) مستهزئون، فأخبر الله تعالى أنه يستهزئ بهم فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا -يعني: من عصمة دمائهم وأموالهم- خلاف الذي لهم عنده في الآخرة، يعني: من العذاب والنكال].