[تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى)]
قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:١٦].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه وعن ناس من الصحابة: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:١٦] قال: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
وقال ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:١٦] أي: الكفر بالإيمان].
معنى (اشتروا) اعتاضوا، أي: أخذوا هذا عوضاً عن هذا، حيث أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، فاعتاضوا عن الهدى بالضلالة، كحال المشتري، فإنه يعتاض عن المبيع بالثمن.
وهؤلاء -والعياذ بالله- اعتاضوا عن الهدى بالضلالة، أي: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: آمنوا ثم كفروا.
وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى، وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:١٧]].
والمراد بالهداية هنا هداية الدلالة والإرشاد، فقوله تعالى: (هديناهم) يعني: دللناهم، مثل قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:١٠] يعني: بينا له طريق الخير وطريق الشر؛ لأن الهداية نوعان: هداية دلالة وإرشاد، وهداية توفيق وتسديد، فالله تعالى ما سددهم ولا وفقهم، ولكن هداهم هداية الدلالة والإرشاد، أي: أوضح لهم الحق، لكنه خذلهم ولم يوفقهم، فلهذا ضلوا فاستحبوا العمى على الهدى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحاصل قول المفسرين فيما تقدم أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهو معنى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:١٦] أي: بذلوا الهدى ثمناً للضلالة، وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر، كما قال تعالى فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المنافقون:٣] أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى كما يكون حال فريق آخر منهم؛ فإنهم أنواع وأقسام، ولهذا قال تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:١٦]].
المنافقون أقسام: فمنهم من كان مؤمناً ثم ارتد، ومنهم من كان عنده إيمان ضعيف يأتي مرة ويذهب أخرى، ومنهم من عنده شك وتردد وريب، ومنهم من هو كافر ثابت على الكفر، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:١٦] أي: ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:١٦] أي: راشدين في صنيعهم ذلك.
وقال ابن جرير: حدثنا بشير حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:١٦] قد -والله- رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة.
وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة بمثله سواء].