[ذكر أقوال العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج]
إن رؤية الله تعالى في الآخرة حق، ولا يلزم من هذا التشبيه، وكل يرى ربه على حسب اعتقاده، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس اعتقاداً وأصحهم علماً وعملاً رأى ربه في أحسن صورة، كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي في أحسن صورة، فقال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: لا أدري، فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله، فعلمت، فقلت: يا رب! في الكفارات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة)، فهذا حديث اختصام الملأ الأعلى، وقد أفرده بعض العلماء بالشرح ومنهم: الحافظ ابن رجب فقد شرح هذا الحديث في مؤلف مستقل.
فقوله: (رأيت ربي في أحسن صورة) هذا في المنام، أما في اليقظة فلم ير ربه، وإنما كلمه الله من وراء حجاب، وفرض عليه الصلوات الخمس من وراء حجاب، وهو صلى الله عليه وسلم داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وهو من خلقه، ولا يتحمل، وداخل في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:٥١]، فهذا هو الصواب.
قال بعض الصحابة وبعض العلماء: إنه رآه بعين رأسه، والصواب أنه رآه بعين قلبه ولم يره بعين رأسه، وهذا هو الجمع الصحيح بين الآثار والنصوص، وما جاء من النصوص ومن الآثار ومن أقوال الصحابة والسلف على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، فيحمل على أنه رآه بعين قلبه، وما جاء من النصوص والآثار أنه لم يره، فيحمل على أنه لم يره بعين رأسه.
وجاء عن عائشة أنها أنكرت ذلك لما سألها مسروق: (هل رأى محمد ربه؟ قالت: لقد قف شعري مما قلت، ثم قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب).
وزعم ابن عباس: (أنه رأى ربه)، ورواية عن الإمام أحمد، لكن ما جاء عن ابن عباس وعن الإمام أحمد مطلق ويقيد برؤية الفؤاد، فيحمل المطلق على المقيد.
وذهب بعض العلماء إلى أنه رآه بعين رأسه، وقالوا: إن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن التكليم لموسى، والرؤية لمحمد، والخلة لإبراهيم، وهو ما ذهب إلى هذا القاضي عياض والنووي في شرح صحيح مسلم، وأبو إسماعيل الهروي وجماعة، لكن هذا القول مرجوح، والصواب أن نبينا صلى الله عليه وسلم شارك موسى في التكليم وشارك إبراهيم في الخلة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير: لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل، وتاب الله عليهم بقتل بعضهم لبعض كما أمرهم الله به، أمر الله موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، وواعدهم موسى، فاختار موسى سبعين رجلاً على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا، وساق البقية، وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:٥٥]، والمراد السبعون المختارون منهم، ولم يحك كثير من المفسرين سواه، وقد أغرب الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين: أنهم بعد إحيائهم قالوا: يا موسى! إنك لا تطلب من الله شيئاً إلا أعطاك، فادعه أن يجعلنا أنبياء، فدعا بذلك فأجاب الله دعوته.
وهذا غريب جداً؛ إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون، وقد غلط أهل الكتاب أيضاً في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل، فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك فمنع منه، فكيف يناله هؤلاء السبعون؟].
لا شك أن القول بأنهم رأوا ربهم غلط، وقولهم: إنهم أنبياء هذا من أشد الأغلاط التي نقلها الرازي رحمه الله.