نصيحة الحكام سراً، وحكم الخروج عليهم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال: قيل لـ أسامة وأنا رديفه: ألا تكلم عثمان؟ فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمراً أحب أن أكون أول من افتتحه].
يعني: قيل أسامة: ألا تكلم عثمان؟ يعني: في بعض المسائل، فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، أكلمه فيما بيني وبينه ولا أفتح شراً على الناس، وهذا دليل على أنه ينبغي مناصحة ولاة الأمور في السر ولا تكون في العلن، حيث يخاطب ولاة الأمور بما يليق بهم، فلا يتكلم الإنسان في المنابر ويقول: فعل كذا وفعل كذا وفعل كذا؛ لأن هذا يسبب الشر والفتنة، ولما تكلم الثوار الذين ثاروا على عثمان وهم سفهاء من البصرة ومن الكوفة ومن مصر وتكلموا من على المنابر وأشاعوا العيوب، وقالوا: عثمان فعل كذا، وفعل كذا، وقرب أقرباءه، وأخذ الزكاة على الخيل، وأتم الصلاة في السفر، وجعلوا ينشرونها، ثم جاءوا وأحاطوا ببيته وقتلوه، فهذا يسبب الفتنة، لكن النصيحة تكون سراً، حيث يناصح ولاة الأمور بما يليق بهم، ويخاطبون بما يليق بهم فيما بينهم، فإن امتثلوا فالحمد لله، وإن لم يمتثلوا فقد أدى الإنسان ما عليه، ولا يجوز الخروج على ولاة الأمور، لحديث عوف بن مالك الأشجعي في صحيح مسلم: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم -يعني: تدعون لهم ويدعون لكم-، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة)، رواه مسلم في صحيحه.
فقال: (فليكره ما يأتي) أي: اكره المعصية ولا تنزعن يداً من طاعة، والنصيحة مبذولة من العلماء ومن يستطيع الكلام مع ولاة الأمور بما يليق بهم، وأما الخروج ومنابذتهم وقتالهم وتأليب الناس عليهم فهذا ممنوع إلا في حالة واحدة، وهي كما جاء في الحديث: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)، فذكر شروطاً هي: الأول: أن يصدر من ولي الأمر كفر، والثاني: أن يكون الكفر بواحاً يعني: صريحاً لا لبس فيه.
الثالث: (عندكم من الله فيه برهان)، وأيضاً الشرط الأخير هو: القدرة ووجود البديل، فإن كان الإنسان لا يستطيع فعليه أن يصبر على الولاية ولو كانت كافرة، فإذا استطاع أن يزيل الكافر ويأتي بدله بكافر فما حصل المطلوب، وذلك مثل الانقلابات العسكرية، حيث تزال حكومة عسكرية كافرة ويأتي بدلها بحكومة عسكرية كافرة، وأما إذا كفر كفراً صريحاً واضحاً لا لبس فيه، والناس عندهم قدرة ووجد البديل وهي حكومة مسلمه فيخرج، وإلا فلا.
وأما العاصي فلا يجوز الخروج عليه، وإنما تكره المعاصي وتبذل النصيحة لولاة الأمور بسرية وبالطريقة المناسبة، وأما الخروج على ولاة الأمور فهذا يسبب الفوضى، والاضطراب، وإراقة الدماء، وانقسام الناس، واختلال الأمن، والزراعة، والمعيشة، والاقتصاد، والتعليم، وتتربص الأعداء بهم الدوائر، وتتدخل الدول الكافرة، إلى غير ذلك من المفاسد، فلا يجوز الخروج على ولاة الأمور كما قرر ذلك أهل السنة في عقائدهم كـ الطحاوي وغيره، حيث قال: ولا تنزع يداً من طاعة، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة.
وهذا معروف عند أهل العلم، وقرر هذا أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية والمجدد الإمام محمد عبد الوهاب وأئمة الدعوة وغيرهم، وأما الدعوة إلى الخروج بالمعاصي فهذه طريقة الخوارج.
ومثل المعاصي المنكرات فإنها تبين وتنكر، فيبين ويقال: الربا حرام ولا يجوز التعامل به، وتبرج النساء حرام، ويرد على أهل الباطل الذين يكتبون باطلهم في الصحف.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمراً أحب أن أكون أول من افتتحه، والله! لا أقول لرجل إنك خير الناس وإن كان علي أميراً بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، قالوا: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: يا فلان! ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه)، ورواه البخاري ومسلم من حديث سليمان بن مهران الأعمش به نحوه.
وقال أحمد حدثنا سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء)].