[سحر التراكيب الهندسية]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(النوع الخامس من السحر): الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية، كفارس على فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد، ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، حتى يصورونها ضاحكة وباكية.
إلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل.
قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل].
ما ذكره الرازي في القرن السادس الهجري أصبح الآن شيئاً مألوفاً، وأسبابه معروفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: يعني ما قاله بعض المفسرين: إنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقاً فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق، فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها].
كانت العصي تتلوى بسبب الزئبق مع الشمس ومع التخييل، كما قال الله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:٦٦]، ولهذا قال بعض العلماء: إنه من سحر التخييل، وأنكر بعضهم حقيقة السحر، وقال: إن السحر كله تخييل، واستدل بهذه الآية، والصواب أن السحر منه ما هو تخييل ومنه ما هو حقيقة، قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:٤]، فلولا أن للسحر حقيقة لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتعوذ من شر النفاثات في العقد.
فالسحر له حقيقة وتأثير في البدن بالمرض والقتل والتفريق بين المرء وزوجه، فالساحر يصور الرجل أمام زوجته بصورة قبيحة حتى تكرهه وتطلب الفراق، ويصور المرأة أمام زوجها بصورة قبيحة ذميمة حتى يكرهها ويفارقها، وهذا من السحر، كما قال سبحانه وتعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:١٠٢]، والعكس كذلك، قد يحسنها في وجهه أو يحسنه في وجهها، وهذان هما الصرف والعطف، فالصرف: أن يصرف المرأة عن زوجها، أو يصرف الرجل عن زوجته، والعطف: أن يحبب كل واحد منهما إلى الآخر، وهما من أنواع السحر.
والخلاصة أن السحر نوعان: حقيقة وخيال، خلافاً لـ أبي حنيفة رحمه الله الذي قال: إن السحر لا يكون إلا خيالاً، وخلافاً للمعتزلة الذين أنكروا وجود السحر، وكل هذا باطل، والصواب أن السحر واقع وموجود.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الرازي: ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات، ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال بالآلات الخفيفة].
هذا واقع، ويسمونه الآن الألعاب البهلوانية، ومن هذا النوع: أن يظهر إنسان أنه يجر السيارة بشعرة من لحيته، أو يخيل لبعض الناس أنه يضرب بطنه بالسكين ويخرج منه دم، أو يخرج من فمه سكاكين أو مناديل، وكل هذا من السحر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وهذا -في الحقيقة- لا ينبغي أن يعد من السحر؛ لأن لها أسباباً معلومة يقينية من اطلع عليها قدر عليها].
ما نراه الآن هو أشياء خفية يعملونها قد تكون من باب الخيال، أو من باب خفة اليد، فهي غريبة عند من لم يعلمها، ومن تعود عليها صارت عنده مألوفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار، كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببلد المقدس، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطغام منهم].
قوله: [تروج على الطغام]، أي: العامة، فالنصارى يوهمون العامة أن هذا من أنوار المسيح أو من أنوار مريم، وهي أشياء يعلمها خاصتهم، فهم يدخلون النار من طريق لا يعلمه عامة الناس، فيتعجب الناس ويقولون: من أين جاءت النار؟! ومن أين جاء القنديل؟! فيغرون الناس بعبادة المسيح.
وكذلك الأشياء التي هي من خفة اليد، فإنها ليست من السحر، ولكنها أشياء خفية لا يعلمها عامة الناس، ولا يعلمون كيفيتها، فتروج عليهم، فإذا كان المقصود منها الترويج للباطل ونشره، فلا شك في أنها حرام، كما أن عمل النصارى في الترويج على عامتهم محرم؛ لأنهم يغرون الناس بعبادة المسيح وعبادة مريم.
وكذلك ما يسمى الآن بالسيرك، وما يفعل في بعض الاحتفالات، كأن تمر سيارة على بطن شخص، فهذا ينظر فيه، والأقرب أنه من باب الخيال.
فإن قيل: قد يكون لهم تعامل مع الجن؟ قلنا: يختلفون، فقد يكون عمل بعضهم من باب خفة اليد، أو من باب التخييل، فينظر إلى أعمالهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الخواص فهم معترفون بذلك، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم].
هكذا يتأول النصارى أنهم يجمعون العوام على دينهم، حتى يوهمونهم أن هذا من أنوار المسيح ومن أنوار مريم، ويدخلون النار إلى الكنيسة من طريق آخر، ولا يعلم بهذا عامة الناس، وهذا من باطلهم ومن ترويجهم لدينهم ومن الشرك والباطل.
نعوذ بالله من هذا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيرون ذلك سائغاً لهم، وفيهم شبهة على الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية].
الأقرب إلى صحة المعنى أن الجملة هكذا: وفيهم شبه بالجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب، فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)].
هذا الحديث من الأحاديث المتواترة، وقد بالغ بعضهم فقال: إن الحديث يقول: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، ونحن إنما نكذب له لا عليه! وهؤلاء هم متعبدة الكرامية الذين يتأولون في وضعهم الحديث أنه لترغيب الناس في الدين، فهم إذا رأوا الناس انصرفوا عن صلاة الفريضة مثلاً وضعوا أحاديث لترغيب الناس فيها، وإذا رأوا الناس انصرفوا عن صيام رمضان وضعوا أحاديث للترغيب، ويتأولون أنهم يحثون الناس على الدين، وهذا فيه شبه بالنصارى الذي يتأولون جمع شمل النصارى، ويلبسون عليهم حتى يجمعوهم على دينهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (حدثوا عني ولا تكذبوا علي؛ فإنه من يكذب علي يلج النار)، ثم ذكر ههنا حكاية عن بعض الرهبان، وهو أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطيور ترق له، فتذهب فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به، فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله، وتوصل إلى أن جعله أجوف فإذا دخلته الريح يسمع منه صوت كصوت ذلك الطائر، وانقطع في صومعة ابتناها وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم، وعلق ذلك الطائر في مكان منها، فإذا كان زمان الزيتون فتح باباً من ناحيته فيدخل الريح إلى داخل هذه الصورة فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضاً، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئاً كثيراً، فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة، ولا يدرون ما سببه].
هذه حيلة من الراهب ليفتن النصارى، ويوهمهم أنها من الكرامات، وأنه على حق.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ففتنهم بذلك، وأوهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة].