للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً)

قال الله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا * أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف:١٠٠ - ١٠٢].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عما يفعله بالكفار يوم القيامة أنه يعرض عليهم جهنم، أي: يبرزها لهم ويظهرها؛ ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها؛ ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم].

إن النار في أسفل سافلين في الأرض السفلى، لكنها تبرز يوم القيامة والعياذ بالله، قال تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات:٣٦]، وتسجر البحار، وتكون جزءاً من النار والعياذ بالله، ونسأل الله السلامة والعافية.

وجاء في الحديث: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) فجهنم تبرز وتسجر البحار فتكون جزءاً منها.

والجنة في أعلى عليين، وينصب الصراط على متن جهنم، ويجتاز الناس هذا الصراط، فمن اجتازه وصل إلى الجنة، والجنة في السماء وأعلاها الفردوس، والفردوس سقفها عرش الرحمن، وأعلى منزلة في الفردوس منزل نبينا صلى الله عليه وسلم، وهي منزلة تسمى الوسيلة، كما جاء في الحديث: (اللهم آت محمداً الوسيلة والفضيلة)، فالوسيلة منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أعلى منزلة في الجنة.

وقول بعض العامة: (آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة) هو غلط؛ لأن الوسيلة هي الدرجة الرفيعة.

ويتخاطب أهل الجنة وأهل النار، وقال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:٤٤]، {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:٥٠] فهم يتخاطبون مع البعد العظيم بينهم، فالمؤمنون في الجنة في أعلى عليين، والكفار في النار في أسفل سافلين، ومع ذلك يتخاطبون ويسمع بعضهم أصوات بعض، وليس ذلك بغريب على الله تعالى، فقد أرانا في الدنيا أن نجد الإنسان يتكلم في الهاتف وهو في المشرق ويسمعه من في المغرب، وكذلك المؤمنون ينظرون إلى الكفار وهم يعذبون في نار جهنم، فالمؤمنون في أعلى عليين، والكفار في أسفل سافلين، كما أخبر الله في سورة الصافات، في قصة الرجل من أهل الجنة له قريب من أهل النار وكان قرينه في الدنيا، فقال له في الدنيا: أتصدق أن الإنسان إذا مات وبليت عظامه وصارت نخرة يبعث؟ فالمؤمن في الجنة يرى قرينه الكافر وهو في النار فيقول: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:٥١ - ٥٣] يعني: مبعوثون ومدينون ومحاسبون، {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:٥٤ - ٥٥] أي: اطلع المؤمن من الجنة فرأى قرينه الكافر الذي كان ينكر البعث في الدنيا في وسط الجحيم يتقلب فيها، فقال له: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات:٥٦ - ٥٩] فالآن بعثت وعذبت.

فلا مانع -إذاً- من أن يكون من في الجنة في أعلى عليين يرى من في النار وهم في أسفل سافلين على بعد عظيم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك).

ثم قال مخبراً عنهم: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} أي: تغافلوا وتعاموا وتصامموا عن قبول الهدى واتباع الحق].

هذا غطاء معنوي حادث، وإلا فليس فيها غطاء حسي؛ لأن الكفار ينظرون ويشاهدون أمور دنياهم ويسمعون، لكن هذا غطاء معنوي يمنعهم من رؤية الحق وقبول الحق واستماع الحق، ولهم عقول، لكن لم ينتفعوا بها والعياذ بالله، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف:٢٦] يعني: لهم أسماع لكن لا يسمعون بها الحق، ولهم عقول وقلوب لا يعقلون بها الحق، ولهم أعين لا يبصرون بها الحق، نسأل الله السلامة والعافية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:٣٦]، وقال هاهنا: {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} أي: لا يعقلون عن الله أمره ونهيه، ثم قال: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} أي: اعتقدوا أنهم يصح لهم ذلك وينتفعون به، {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:٨٢] ولهذا أخبر الله تعالى أنه قد أعد لهم جهنم يوم القيامة نزلاً].

هؤلاء الكفار تصامموا عن قبول الهدى واتباع الحق، كما قال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:٣٦]، وقال هنا: {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:١٠١] أي: لا يعقلون عن الله أمره ونهيه، يعني: لا يستطيعون سماع الحق وقبوله، وإلا فهم يسمعون أمور دنياهم ومعاشهم، نسأل الله السلامة والعافية.