[دعوى المنافقين الإيمان وكذبهم في ذلك]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:٨] يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم، وكذا فسرها بالمنافقين من الأوس والخزرج أبو العالية والحسن وقتادة والسدي.
ولهذا نبه الله سبحانه على صفات المنافقين؛ لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار، أن يظن بأهل الفجور خير، فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:٨] أي: يقولون ذلك قولاً ليس وراءه شيء آخر].
يعني: أن إيمانهم إنما كان باللسان، وكان الكفر في القلب، فالله تعالى أثبت لهم الإيمان ونفاه عنهم، فكيف ذلك؟! والجواب أننا نقول: الجهة منفكة، ولا يقال: إن هذا تناقض -تعالى الله-؛ لأن شرط التناقض اتحاد الجهة، وهو أن يرد النفي والإثبات على جهة واحدة، وهذا لا يقع في كلام الله ولا في كلام رسوله، ولا في كلام العقلاء.
لكن إذا كانت الجهة منفكة فلا تناقض، فجهة إثبات الإيمان هي اللسان، وجهة نفي الإيمان هي القلب، فالجهة منفكة.
فالله تعالى يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:٨] يعني: بألسنتهم، {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:٨] يعني: بقلوبهم، فأثبت لهم الإيمان بالألسنة ونفى عنهم الإيمان في القلوب، فنسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون:١]].
قوله تعالى: (قالوا نشهد إنك لرسول الله) يعني: بألسنتهم، (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) يعني: بقلوبهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: إنما يقولون ذلك إذا جاءوك فقط، لا في نفس الأمر، ولهذا يؤكدون الشهادة بـ (إن) ولام التأكيد في خبرها، أكدوا أمرهم قالوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:٨] وليس الأمر كذلك، كما كذبهم الله في شهادتهم وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:١]، وبقوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:٨]].
أي أن هنا ثلاثة مؤكدات: وهي (إن)، واللام، والجملة الاسمية في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:١] وذلك لبيان تحقيق كذبهم وشدة كذبهم، وأنهم كاذبون في الواقع ونفس الأمر.
وقد أثبت لهم الإيمان وأثبت لهم الكفر بعد الإيمان، وذلك لأنه قد يكون عندهم إيمان ضعيف؛ لأن المنافقين يتفاوتون، فبعضهم عنده إيمان ضعيف يأتي ويذهب، ومرةً يخبو ومرةً يوجد، والمقصود أن الله تعالى كفرهم بعد الإيمان.