للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حديث الفتون]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: وقوله: [{وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:٤٠]: قال الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه الله في كتاب التفسير من سننه: قوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:٤٠] حدثنا عبد الله محمد حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا أصبغ بن زيد حدثنا القاسم بن أبي أيوب أخبرني سعيد بن جبير قال: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عز وجل لموسى عليه السلام: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:٤٠] فسألته عن الفتون ما هو؟ فقال: استأنف النهار يا ابن جبير! فإن لها حديثاً طويلاً، فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك لا يشكون فيه، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان وعد إبراهيم، فقال فرعون: فكيف ترون؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه، ففعلوا ذلك، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم والصغار يذبحون، قالوا: ليوشكن أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي يكفونكم].

يعني: أن العمال من بني إسرائيل قد كانوا ممتهنين، فهم الذين يخدمون ويعملون، فإذا كان الكبار يموتون بآجالهم والصغار يذبحون فمن يشتغل ومن يعمل؟ فلا يبقى إلا النساء، والنساء لا يستطعن أن يعملن كثيراً من الأعمال؛ لأن النساء ضعيفات، فلذلك اتفقوا على أن يترك الصغار سنة ويذبحوا سنة، فولد هارون في السنة التي يترك فيها الغلمان، وولد موسى في السنة التي يذبح فيها الغلمان.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر فيقل أبناؤهم، ودعوا عاماً فلا تقتلوا منهم أحداً فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولم يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم، فأجمعوا أمرهم على ذلك].

أي: أنهم وجدوا أن هذا حل رصين، فيقتلون في عام ويبقون عام؛ لأنهم إذا قتلوا في عام لم يكثروا كثرة يخاف منها، وتبقى منهم بقية يقومون بالخدمة والعمل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان فولدته علانية آمنة].

أي: آمنة مطمئنة؛ لأن الغلمان لا يذبحون في هذا العام، وهارون أخو موسى لأمه وأبيه، وأما قوله: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} [طه:٩٤] فهو من باب الاستعطاف، فهو يستعطفه بنسبته إلى أمه وإلا فهو أخوه لأبيه وأمه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما كان من قابل حملت بموسى عليه السلام، فوقع في قلبها الهم والحزن، وذلك من الفتون يا ابن جبير! ما دخل عليه وهو في بطن أمه مما يراد به، فأوحى الله إليها ألا تخافي ولا تحزني؛ إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين].

هذا الوحي إلهام، كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:٧] أي: ألهمها الله ذلك، فالوحي يطلق على الإلهام، وكقوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل:٦٨] يعني: وحي إلهام، وقد استدل ابن حزم رحمه الله بهذا على أن أم موسى نبية، قال: إن الله أوحى إليها، وكذلك أيضاً مريم أم عيسى قال: إنها نبية، لأن الملائكة كلمتها، كما قال تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي} [آل عمران:٤٣]، وكذلك سارة امرأة إبراهيم قال: إنها نبية! وهذا من أوهامه وأخطائه رحمه الله، والصواب الذي عليه جمهور العلماء أنه ليس في الأنبياء نبية، وإنما هذا وحي إلهام، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:١٠٩] فالنبوة خاصة بالرجال وليس في النساء نبية، ولأن الله تعالى قال في شأن أفضلهن وهي أم عيسى مريم في مقام الامتنان: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:٧٥] يعني: بلغت درجة الصديقين ولكنها لم تبلغ درجة النبوة، فلو كان هناك أعلى من هذا لذكره الله في مقام الامتنان، وهذا هو الصواب بنص الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا} [يوسف:١٠٩].

وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن يكن في أمتي محدثون -يعني: ملهمون- فإن منهم عمر)، فظاهر الحديث أن هناك محدثين ومنهم عمر رضي الله عنه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم، فلما ولدت فعلت ذلك، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان فقالت في نفسها: ما فعلتُ بابني؟! لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه، فانتهى الماء به حتى أوفى عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذنه فأردن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهن: إن في هذا مالاً، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدناه فيه، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئاً حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه غلاماً فألقى الله عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط، وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جبير! فقالت لهم: أقروه فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل].

أي: أنهم جاءوا بشفارهم ليذبحوه بناء على الأوامر الصادرة من فرعون: أن يذبحوا كل غلام في هذه السنة يذبح، فلما جاءوا إليها قالت: إليكم، أقروا هذا فهو واحد لا يزيد في بني إسرائيل ولو كان في السنة التي يذبح فيها الغلمان، قال ابن عباس: وهذا من الفتون، والفتون: ما أصابها من الهم حين حملته في بطنها.

والخوف عليه، ثم لا تركته في ذلك التابوت، ثم لما أتي به إلى امرأة فرعون وجاء الذباحون، كل هذا من الفتون الداخل في قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:٤٠].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقالت لهم: أقروه فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتي فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم، فأتت فرعون فقالت: قرة عين لي ولك، فقال فرعون: يكون لكِ فأما لي فلا حاجة لي فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي يحلف به! لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها، ولكن حرمه ذلك)، فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها لبن لتختار له ظئراً].

الظئر هي المرضعة غير الأم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فأحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئراً تأخذه منها فلم يقبل، وأصبحت أم موسى والهاً؛ فقالت لأخته: قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكراً؟ وهل هو حي أم قد أكلته الدواب؟ ونسيت ما وعدها الله فيه، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:١١]، والجنب: أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه وهو لا يشعر به، فقالت من الفرح حين أعياهم وجود الظئر: أنا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُون، فأخذوها فقالوا: وما يدريكِ ما نصحهم له، هل تعرفينه؟ فشكوا في ذلك، وذلك من الفتون يا ابن جبير!].

يعني: شكوا فيها، هل هي أمه أم لا؟ وهذا من مواضع الفتون.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في صهر الملك ورجاء منفعة الملك، فتركوها].

يعني: محبتهم أن يكونوا نصحاً وظئراً للملك، وعندها زال الشك عنهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئراً، فأرسلت إليها، فأتت بها وبه فلما رأت ما يصنع بها قالت: امكثي ترضعي ابني هذا فإني لم أحب شيئاً حبه قط.

قالت أم موسى: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيراً فإني غير تاركة بيتي وولدي، وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه، فتعاسرت على امرأة فرعون وأيقنت أن الله منجز وعده].

يعني: أنها كانت تريد البقاء عند ابنها لولا أنما تذكرت قول الله فتعاسرت وأيقنت بوعد الله قال تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:٧] وأن الله لن يضيعه، فسأذهب إلى بيتي ولابد أن يرضحوا لهذا، فرضخت امرأة فرعون لأم موسى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فرجعت به إلى بيتها من يومها وأنبته الله نباتاً حسناً وحفظه لما قد قضى فيه، فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم].

يعني: خف وزال عنهم الظلم بسبب أن موسى منهم وهو عند فرعون الملك.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أزيريني ابني، فدعتها يوماً تزيرها إياه فيه].

قوله: أزيريني: من الزيارة، والظاهر أنه بقي مدة تربيته عند أمه لا يذهب إلى امرأة فرعون فيها، ولعله في وقت من أوقات صغره، ثم بعد ذلك أخذته إن صح هذا، فيكون هذا في صغره قبل الفطام ثم بعد ذلك صار في بيت فرعون، وفي هذا قال الله عن فرعون أنه قال لموسى: {أَ