[ذكر حديث الخمس الكلمات]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة.
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف -وكان يعد من البدلاء-].
يعني: من العلماء الذين يخلف بعضهم بعضاً، كما قال شيخ الإسلام في الوصية: (وفيهم الأبدال)، يعني: العلماء الذين يخلف بعضهم بعضاً، كلما ذهب عالم خلفه عالم، وهذا من خصائص هذه الأمة، فالعلماء في هذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل، فإنهم كانوا كلما هلك نبي خلفه نبي، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- هو آخر الأنبياء ليس بعده نبي، لكن الله جعل العلماء ورثة الأنبياء يخلفون الأنبياء، ويقومون مقام أنبياء بني إسرائيل، فهم يخلف بعضهم بعضاً.
قال: [قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف وكان يعد من البدلاء.
حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن الحارث الأشعري -رضي الله عنه- أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وأنه كاد أن يبطئ بها)].
وكان يحيى وعيسى ابني خالة، وكلاهما نبيان.
قال: [(فقال له عيسى عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني اسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهم وإما أن أبلغهن، فقال: يا أخي! إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي)].
وهذا من ورعه وتقواه عليه الصلاة والسلام، وإذا كان الذي يبطئ بالتبليغ يخشى عليه من العذاب والخسف، فكيف بمن يترك أوامر الله عن علم وعن بصيرة ويرتكب النواهي؟! وإذا كان الذي يبطئ في التبليغ يخشى عليه من العذاب والخسف لأنه تأخر في التبليغ، فكيف بمن كتم العلم؟! وكيف بمن ارتكب المحظور وترك الأوامر؟! لا شك في أن العقوبة أشد.
قال: [قال: (فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن، أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)].
وأصل الدين وأساس الملة توحيد الله وإخلاص العبادة لله، وهذا هو الأمر الذي خلق العباد من أجله، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦]، هذا هو الأمر الأول، وهو أهمها وأعظمها، وهو عبادة الله وإخلاص الدين له، وهو الأمر الذي جاءت به الرسل، ودعوا إليه أممهم.
قال: [(أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بورق أو ذهب، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟!)].
وهذا مثل المشرك، فإنه عبد سوء، فالمثال له كإنسان اشترى هذا العبد من خالص ماله بورق -أي: فضة- أو ذهب، وقال له: اعمل، فصار يعمل ويعطي الأجرة غير سيده، وكلنا لا يحب هذا، فهذا عبد سوء، وهو مثل المشرك بالله تعالى، فالله خلقك وأوجدك، وأنعم عليك بالنعم ورباك بنعمه، ثم تعبد غيره! قال: [(وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وآمركم بالصلاة، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، وآمركم بالصيام؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)].
يقال: خُلوف، وخَلوف.
قال: (وآمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، وقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه، وآمركم بذكر الله كثيراً، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى حصناً حصينا فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله)].
هذه أمور عظيمة: عبادة الله، والصلاة، والصيام، والصدقة، وذكر الله.
[قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع)].
الجماعة هي جماعة المسلمين، والسمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله.
والهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام باقية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، وأما الهجرة من مكة إلى المدينة فقد انتهت بعد فتح مكة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية).
فيجب لزوم جماعة المسلمين في معتقداتهم، وفي عباداتهم، وأوطانهم، والسمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله، وهذا هو قيد هذا الأمر، ومثله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:٥٩] فهو مقيد بقوله: (إنما الطاعة في المعروف) وقوله: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وفي الحديث الآخر: (على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)، والنصوص يقيد بعضها بعضاً، فالسمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله وفي الأمور المباحة، أما المعاصي فلا يطاع فيها أحد، وليس معنى ذلك الخروج، ولا يلزم منه الخروج، وإنما لا يطاع في المعصية، فالسيد إذا أمر عبده بالمعصية لا يطيعه، والوالد إذا أمر ابنه بالمعصية لا يطيعه، والزوجة إذا أمرها زوجها بالمعصية لا تطيعه، لكن لا يتمردون عليهم، وإنما لا يطيعونهم في المعاصي.
فإن قيل: هل ما زالت الهجرة على سبيل الإيجاب؟ ف
الجواب
نعم إذا كان لا يستطيع إظهار دينه في بلد الشرك، فيجب عليه أن يهاجر إذا استطاع، والله تعالى توعد من بقي بين أظهر الكفار بوعيد شديد فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:٩٧]، واستثنى الله العاجز، فقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:٩٨ - ٩٩]، وهذه الآية نزلت في جماعة في مكة كانوا يخفون إسلامهم ولا يستطيعون الهجرة، وأخرجهم الكفار معهم يوم بدر، حتى قتل بعضهم، فقال الصحابة: قتلنا بعض إخواننا، فأنزل الله فيهم هذه الآية، فالذي لا يستطيع الهجرة معذور، أما الذي يستطيع فليس له أن يبقى، حتى إن المرأة لها أن تهاجر ولو لم يكن معها محرم؛ لأن الهجرة مقدمة على المحرم، لأنها تخشى على دينها.
وإذا كان المرء لا يستطيع أن يظهر دينه وليس عليه خطر، أو كان داعية يسلم على يديه الخلق، فهذا مستثنى، وإظهار الدين ليس بالصلاة والصيام فقط، بل بأن يصلي ويرد الشبه التي ترد عليه، ويبين محاسن الإسلام، ويبين ما هم عليه من الباطل إذا اقتضى الحال.
وقوله: [(فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام)].
هذا دليل على أن الخروج على جماعة المسلمين وعلى ولاة الأمور من الكبائر، وفي الحديث الآخر: (فإنه من خرج من الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية).
وقوله: [(خلع رقبة الإسلام من عنقه)] هو من باب الوعيد عند أهل العلم، ويدل على أن ذلك من الكبائر، لا أنه يخرج من الملة.
[قال: (ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم)].
هذا وعيد شديد، فمن دعا بدعوى الجاهلية إلى قومية أو إلى عصبية أو إلى قبيلته أو نحو ذلك فهو من جثي جهنم، وفي الحديث الآخر (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهني أبيه ولا تكنوا) يعني: كما قال بعض الصحابة في الحديبية لـ عروة بن مسعود امصص بظر اللات، ولما حصل بعض الكلام بين بعض المهاجرين والأنصار فقال المهاجرون: يا للمهاجرين، وقال الأنصار: يا للأنصار؛ قال النبي: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة)، مع أن هذه أسماء إسلامية، فكيف بمن دعا إلى القبيلة الفلانية؟! فإذا قال: يا بني فلان فقد دعا إلى عصبية، ودعا إلى حرب، ولا شك في أن هذا يوجد النزاع والخلاف، ثم يوجد القتال والفرقة، وأشد من هذا من يدعو إلى القومية العربية، أو يدعو إلى الاشتراكية وما أشبه ذلك من الدعوات الكفرية، فهذه أعظم وأعظم، والمقصود أن الدعاء بدعوى الجاهلية من كبائر الذنوب، حتى ولو كانت أسماء إسلامية، فكيف إذا كانت أسماء كفرية.
وقد يقال: هل الجماعات تدخل في هذه التفرقة والعصبية؟
و
الجواب
نعم، إذا كان فيها تفرقة، أو كان بينهم نزاع فدعا هذا إلى جماعته، ودعا ذاك إلى جماعته، وصاروا يتنازعون، أما إذا كانت الجماعات كلها تعمل في سبيل الحق، وكان هذا التقسيم من باب تنظيم العمل فلا بأس، أما إذا كان بينهم نزاع وشقاق، وكان بينهم شحناء وبغضاء، فالواجب عليهم أن يتحاكموا إلى كتاب الله وسنة نبيه، وأن يجتمعوا ولا يتفرقوا، وينظر في كون الحق مع من، ثم الرجوع إلى كتاب الله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:٥٩] فيرجعون إلى العلماء ليبينوا لهم هذا، ولا يتنازعون، بل ينظر فيمن هو على الحق، فهذه الجماعة ينظر في منهجها هل هي موافقة للحق