للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وما تلك بيمينك يا موسى)]

قال الله تعالى: [{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:١٧ - ٢١].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا برهان من الله تعالى لموسى عليه السلام، ومعجزة عظيمة، وخرق للعادة باهر، دل على أنه لا يقدر على مثل هذا إلا الله عز وجل، وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل، وقوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:١٧] قال بعض المفسرين: إنما قال له ذلك على سبيل الإيناس له.

وقيل: إنما قال له ذلك على وجه التقرير، أي: أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها، فسترى ما نصنع بها الآن، {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:١٧] استفهام تقرير.

{قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه:١٨] أي: أعتمد عليها في حال المشي: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه:١٨] أي: أهز بها الشجرة ليسقط ورقها، لترعاه غنمي، قال عبد الرحمن بن القاسم: عن الإمام مالك: الهش: أن يضع الرجل المحجن في الغصن، ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره، ولا يكسر العود، فهذا الهش، ولا يخبط.

وكذا قال ميمون بن مهران أيضاً.

وقوله: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:١٨] أي: مصالح ومنافع وحاجات أخر غير ذلك].

العصا فيها مصالح عدة، منها: ما ذكره موسى عليه السلام من أنه يعتمد عليها في مشيه، ويهش بها على غنمه، وله فيها مصالح: كأن يضرب بها السبع مثلاً، أو الحية، أو العقرب، وكذلك أيضاً: يدافع بها عن نفسه إذا اعتدى عليه عدو، ويضعها سترة له عندما يصلي، ويضع عليها ثوباً يستظل به، ومصالح وفوائد كثيرة، كما أخبر في قوله: {فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:١٨].

قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:١٨]، أي: مصالح ومنافع وحاجات أخر غيرذلك، وقد تكلف بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمت، فقيل: كانت تضيء له بالليل، وتحرس له الغنم إذا نام، ويغرسها فتصير شجرة تظله، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، والظاهر أنها لم تكن كذلك، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى عليه السلام صيرورتها ثعباناً، فما كان يفر منها هارباً، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية، وكذا قول بعضهم: إنها كانت لآدم عليه السلام، وقول الآخر: أنها هي الدابة التي تخرج قبل يوم القيامة، وروي عن ابن عباس أنه قال: كان اسمها: (ماشاء) والله أعلم بالصواب].

وكل هذه من أخبار من بني إسرائيل ولا دليل عليها، والأقرب: أن المآرب هي المعروفة التي سبق ذكرها.

قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [طه:١٩] أي: هذه العصا التي في يدك يا موسى، (ألقها) {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:٢٠] أي: صارت في الحال حية عظيمة ثعباناً طويلاً يتحرك حركة سريعة، فإذا هي تهتز كأنها جان، وهو: أسرع الحيات حركة ولكنه صغير، فهذه في غاية الكبر وفي غاية سرعة الحركة {تَسْعَى} [طه:٢٠] أي: تمشي وتضطرب.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا أحمد بن عبدة قال: حدثنا حفص بن جميع قال: حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:٢٠] ولم تكن قبل ذلك حية، فمرت بشجرة فأكلتها، فمرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها، فولى مدبراً، فنودي أن: يا موسى، خذها.

فلم يأخذها، ثم نودي الثانية: أن خذها ولا تخف.

فقيل له في الثالثة: إنك من الآمنين فأخذها.

وقال وهب بن منبه في قوله: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:٢٠] قال: فألقاها على وجه الأرض، ثم حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون، فدب يلتمس كأنه يبتغى شيئاً يريد أخذه يمر بالصخرة مثله مثل الخلفة من الإبل فيلتقمها، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها، عيناه تتقدان ناراً].

أي: نظرة إلى العصا لما وضعها فرآها ثعبان عظيم، فهذه من الآيات العظيمة، وقدرة ربانية عظيمة، حيث أنه إذا أخذها بيده تكون عصا، ويضعها على الأرض فتكون ثعبان معروف، قال الله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} [طه:٢٤] فهذه آية وبرهان إذا طلب منك آية ودليل.

والآية الثانية: يده يدخلها في جيبه ثم يخرجها فإذا هي بيضاء تتلألأ من غير سوء، يعني: من غير ضرر، نور تتلألأ مثل الشمس، قال الله: ((فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ))].

هذه التفصيلات كونها تتوقد ناراً، وكونها ابتلعت الصخرة، وكونها قطعت أصل الشجرة، كل هذا يحتاج إلى دليل، المهم أنها صارت ثعبان عظيم، وحية تسعى وتضطرب بسرعة هائلة.

قال المصنف رحمه الله: [وقد عاد المحجن منها عرفاً، قيل: شعر مثل النيازك، وعاد الشعبتان فماً مثل القليب الواسع فيه أضراس وأنياب].

عرفاً بالضم، يعني: الحية.

قال المصنف رحمه الله: [لها صريف، فلما عاين ذلك موسى ولى مدبراً ولم يعقب، فذهب حتى أمعن، ورأى أنه قد أعجز الحية، ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه، ثم نودي: يا موسى! أن ارجع حيث كنت.

فرجع موسى وهو شديد الخوف.

فقال: خذها بيمينك {وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:٢١] وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف، فدخلها بخلال من عيدان، فلما أمره بأخذها أدلى طرف المدرعة على يده، فقال له ملك: أرأيت يا موسى، لو أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئاً؟ قال: لا ولكني ضعيف، ومن ضعف خلقت.

فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية، حتى سمع حس الأضراس والأنياب، ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها، وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها إذا توكأ بين الشعبتين؛ ولهذا قال تعالى: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:٢١] أي: إلى حالها التي تعرف قبل ذلك].