[دليل من يقول بتقدم خلق السماء على الأرض والرد عليه]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن قتادة: أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات:٢٧ - ٣٢].
قالوا: فذكر خلق السماء قبل الأرض.
وفي صحيح البخاري: أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه، فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديمًا وحديثًا].
ما سرده القرطبي له وجه؛ لأنه أشكل عليه أن الله تعالى ذكر خلق السماء في آية النازعات قبل الأرض.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد حررنا ذلك في تفسير سورة النازعات، وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات:٣٠ - ٣٢]، ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعًا فيها بالقوة إلى الفعل لما اكتملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية، دحى بعد ذلك الأرض، فأخرجت ما كان مودعًا فيها من المياه، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفسير -أيضًا- من رواية ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة، قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر، يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل)].
فعلى هذا تكون الأيام السبعة كلها في خلق الأرض، وهذا حديث باطل، وإن رواه الإمام مسلم فهو من وهم الرواة، وهو أيضاً من كلام كعب الأحبار، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، إذ وهم أيوب بن خالد فرفعه، وأما أبو هريرة فرواه عن كعب، وكعب يأخذ عن بني إسرائيل، وهذا مناقض للآيات، فيوم السبت ليس فيه خلق، وإنما خلقت المخلوقات يوم الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، بنص القرآن كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [ق:٣٨]، أولها الأحد وآخرها الجمعة، ثم قال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:٣٨]، وقال في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [السجدة:٤]، فالخلق في ستة أيام، أولها الأحد وآخرها الجمعة، والله قادر على خلقها في الأحد، فهو حكيم سبحانه وتعالى، والمراد بالأيام في الآية: الأيام هذه على الصحيح، خلافاً لقول بعض أهل العلم أنها الأيام التي عند الله، كألف سنة مما تعدون؛ لأن الله خاطبنا بما نعلم.
سبق أن الحافظ رحمه الله ذكر في أول التفسير أن أخبار بني إسرائيل على ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما جاء شرعنا بإبطاله فهو باطل ومنه هذا.
والثاني: ما جاء شرعنا بموافقته، فهذا ثابت، والثالث: ما سكت عنه شرعنا، وهذا هو الذي لا يصدق ولا يكذب.
والمقصود أن هذا الحديث وإن كان في صحيح مسلم، فهو وهم من أيوب بن خالد، إذ رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار لا عن رسول الله، كما ذكر ذلك المحققون والأئمة كـ البخاري وعلي بن المديني والحافظ ابن كثير وغيرهم من المحققين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعاً، وقد حرر ذلك البيهقي].