للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير)]

قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:٩ - ١٠].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر تعالى حال الضلال الجهال المقلدين في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:٣] ذكر في هذه حال الدعاة إلى الضلالة من رءوس الكفر والبدع فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:٨] أي: بلا عقل صحيح ولا نقل صريح؛ بل بمجرد الرأي والهوى، وقوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج:٩] قال ابن عباس وغيره: مستكبراً عن الحق إذا دعي إليه، وقال مجاهد وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج:٩] أي: لاوي عطفه وهي رقبته، يعني: يعرض عما يدعى إليه من الحق ويثني رقبته استكباراً، كقوله تعالى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:٣٨ - ٣٩]، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:٦١]، وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:٥]، وقال لقمان لابنه: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:١٨] أي: تميله عنهم استكباراً عليهم، وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:٧]].

والمعنى: أنه إذا دعي للحق أعرض واستكبر ورد الحق، كقوله سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:٢٠٦]، نسأل الله السلامة.

فالواجب على الإنسان أن يقبل الحق، وأن يحذر من الكبر ورد الحق، فإنه من أعظم الجرائم، فإن رد الحق والاستكبار من الكبائر العظيمة؛ ولهذا خسف الله رءوس الضلال، وأهل البدع وأهل الكفر بسبب الجدال ورد الحق، والإعراض والتكبر، نسأل الله السلامة والعافية.

قول المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:٩] قال بعضهم: هذه لام العاقبة؛ لأنه قد لا يقصد ذلك، ويحتمل أن تكون لام التعليل، ثم إما أن يكون المراد بها: المعاندين، أو يكون المراد بها أن هذا الفاعل لهذا إنما جبلناه على هذا الخلق الدنيء لنجعله ممن يضل عن سبيل الله].

يعني: يحتمل أن تكون لام العاقبة، والمعنى أنه بفعله ذلك تكون العاقبة إضلاله الناس، ويحسب أن يكون قاصداً للإضلال؛ بخبثه وحقده فيقصد الإضلال، فإذا كان يقصد الإضلال صارت اللام للتعليل، وإن كان لا يقصد الإضلال، صارت اللام للعاقبة.

ومثله قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:٨] أي: التقط موسى آل فرعون، قال تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:٩] فهذه اللام لام العاقبة، والمعنى: أنهم التقطوه؛ لتكون العاقبة أن يكون لهم عدواً وحزناً، والعاقبة في النهاية أنه كان عدواً لهم، فهذه يسمونها لام العاقبة، وإن كان فرعون لم يقصد أن يكون عدواً له عندما أخذه، بل قصد أن يكون ولداً له، لكن العاقبة أن صار عدوا له.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال تعالى: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [الحج:٩] وهو الإهانة والذل، كما أنه لما استكبر عن آيات الله لقاه الله المذلة في الدنيا، وعاقبه فيها قبل الآخرة؛ لأنها أكبر همه ومبلغ علمه، {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:٩ - ١٠] أي: يقال له هذا تقريعاً وتوبيخاً، {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:١٠] كقوله تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان:٤٧ - ٥٠].

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن الصباح حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا هشام عن الحسن قال: بلغني أن أحدهم يحرق في اليوم سبعين ألف مرة].

وهذا رواه الحسن بأنه بلغه، يعني: منقطع، والله أعلم، لكن يكفي قول الله تعالى:: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:٩].

وقول الحسن: بلغني، يعني: أخذه من أخبار بني إسرائيل.