[تفسير قوله تعالى: (فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى)]
قال الله تعالى: [{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه:٦٠ - ٦٢].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن فرعون: أنه لما تواعد هو وموسى عليه الصلاة السلام إلى وقت ومكان معلومين ((تَوَلَّى)) أي: شرع في جمع السحرة من مدائن ممكلته كل من ينسب إلى سحر في ذلك الزمان، وقد كان السحر فيهم كثيراً نافقاً جداً كما قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس:٧٩]].
وهذه من حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل معجزات الأنبياء من جنس ما فاق به أهل ذلك الزمان، فالناس في زمن فرعون انتشر بينهم السحر، وكان لهم عناية بالسحر، وبلغوا فيه بلوغاً عظيماً، حتى إن هناك سحرة عندهم علم قوي بالسحر، ولهذا قال الملأ لفرعون: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف:١١٢]، فجعل الله معجزة موسى العصا تفوق ما فاق به هؤلاء من السحر، فأتاهم موسى بمعجزة من عند الله وبما لا قبل لهم بها حتى علم السحرة أن هذا ليس من صنع البشر، وإنما هذا من أمر الله، وإنما هذه قدرة الله فلذلك خروا سجداً وآمنوا في الحال؛ لأن عندهم عناية ومعرفة عظيمة بالسحر، وقد عرفوا السحر من أوله إلى آخره، فعرفوا أن هذا ليس من عند الله، فلهذا آمنوا في الحال، فكانت معجزة موسى عليه السلام تفوق ما برع به هؤلاء السحرة.
ولما كان الناس في زمن عيسى عليه السلام قد برعوا بالطب وبلغوا شأواً بعيداً في الطب أعطى الله عيسى من المعجزات ما فاق به الأطباء، فكان يبرئ الأكمه والأبرص، فالأبرص يداويه فيبرؤه الله في الحال، والأكمه الذي ولد ولم يشق له عين يبرئه عيسى بإذن الله، فيشق له عيناً، وكذلك يخلق من الطين كهيئة الطير ويصور من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، ويخلق الله له روحاً، ففاق الأطباء في زمنه، وعلموا أن هذا ليس من صنع البشر، وإنما من المعجزات التي أعطاها الله الأنبياء.
ولما كانت العرب في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد بلغوا شأواً بعيداً في الفصاحة والبلاغة والشعر والتصرف في الأساليب العربية، وكانت لهم أسواقاً يتناشدون فيه الأشعار ويتفاخرون بالمجاز وغيره، كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن الذي أنزله الله بلسان عربي مبين، وجعله أفصح الكلام، وأصدق الكلام، وأحسن الكلام، فتحداهم الله وهم الفصحاء وفرسان البلاغة الذين لا يجارون فعجزوا، ثم تحداهم الله أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، ثم تحداهم الله أن يأتوا بسورة فعجزوا، مع أن القرآن متكون من الحروف الهجائية، ومتكون من ألفاظ ومعانٍ يعرفونها ومع ذلك عجزوا، فهو ليس من عند البشر، وإنما هو كلام الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس:٧٩]، ثم أتي، أي: اجتمع الناس لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة، وجلس فرعون على سرير مملكته واصطف له أكابر دولته، ووقفت الرعايا يمنة ويسرة، وأقبل موسى صلى الله عليه وسلم يتوكأ على عصاه ومعه أخوه هارون ووقف السحرة بين يدي فرعون صفوفاً، وهو يحرضهم ويحثهم ويرغبهم في إجازة عملهم في ذلك اليوم، ويتمنون عليه].
يتمنون عليه يعني: يقولون: ماذا ستعطينا من الجوائز إذا غلبنا موسى، كما قال الله، قال السحرة: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:١١٣ - ١١٤] أي: لكم الجوائز والهدايا والتحف وأيضاً التقريب فأقربكم إلي وتكونوا مقربين من الملك في الوظائف والأعمال، ولكن لما جاء الحق ضاعت هذه الأشياء كلها وما نفع الترغيب ولا الترهيب ولا التقريب، فخر السحرة سجداً لله، وآمنوا في الحال.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو يعدهم ويمنيهم فيقولون: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:٤١ - ٤٢].
{قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه:٦١] أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها].
وهي العصي والحبال التي يبهرجون بها على الناس، فيضعون فيه الزئبق ويخيلون على أعين الناس، ويسحرون أعين الناس فيخيل إليهم أنها حيات وعقارب تتلوى، وهي عصي في الحقيقة وحبال عادية يضعون فيها الزئبق، فسحروا أعين الناس، فصار كل الوادي على سعته حيات وعقارب، حتى إن موسى عليه الصلاة والسلام وهو نبي كريم أوجس في نفسه خيفة ورهبة عظيمة فهو وادٍ مد البصر امتلأ حيات وعقارب، {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:٦٧] قال الله له: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه:٦٨ - ٦٩]، وهي العصا {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:٦٩].
ولهذا قال لهم: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه:٦١] أي: لا تزوروا وتبهرجوا على الناس وتسحروا أعين الناس وتضعون الزئبق على العصي والحبال فتكون عقارب وحيات؛ تبهرجون وتزخرفون وتموهون، وتجعلون الناس يعتقدون غير الحقائق.
{وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:٦١]، فكانت هذه الكلمة من موسى عليه السلام لها تأثير عظيم، حتى إن السحرة تنازعوا أمرهم بينهم وفشلوا بسبب هذه المقالة التي قالها {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه:٦١]، لا تروجوا على الناس بالباطل وتموهون على الناس وتسحرون أعين الناس {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} وخوفهم بالوعيد (يسحتكم بعذاب) يعني: يهلككم ويستأصلكم بالعذاب، (وقد خاب من افترى).
فكانت هذه الكلمة لها تأثير في تنازع السحرة واختلاف كلمتهم: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه:٦٢].
قال المؤلف رحمه الله: [{قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه:٦١].
أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها وأنها مخلوقة وليست مخلوقة، فتكونون قد كذبتم على الله: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه:٦١] أي: يهلككم بعقوبة هلاكاً لا بقية له].
يعني: يخيلوا للناس أن هذه العصي والحبال حيات وعقارب وأنها مخلوقة وليست بمخلوقة، وهذا من الكذب والافتراء والتزوير على الله، ولهذا قال: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَاب وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:٦١]، وأنتم مفترون بالأفعال، وقد يكون الإنسان مفترٍ بالأقوال وقد يكون مفترٍ بالأعمال.
والافتراء بالأقوال كأن يفتري على الله الكذب في أسمائه وصفاته، فينفي أسماء الله، ويقول: ليست لله، أو ينفي صفاته، أو يئولها، فهذا من الافتراء على الله، وكأن يقول: معنى الاستواء الاستيلاء، أو يفتري على الله في الحلال والحرام وهو كاذب، وكذلك يكون الافتراء بالأعمال كما فعل السحرة.
والكلمة التي قالها موسى كان لها الأثر العظيم القوي، وسببت النزاع فيما بين السحرة واختلاف الكلمة، وهذه من أقوى العدة ومن أقوى أسباب الانتصار على الخصم: إذا حصل بين أفراد الخصوم النزاع، وإذا حدث بين رؤسائهم وقادتهم فتعتبر هذه هزيمة لفرعون وللسحرة، ونصر لموسى وهارون عليهم السلام، فنصرهما الله بتنازعهم واختلاف كلمتهم.
ومن القوة اتحاد الكلمة والاتفاق في الرأي، وأما الاختلاف والتنازع فهو من أسباب الهزيمة.
ولهذا قال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:٤٦]، وهذه أوصى الله بها المجاهدين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:٤٥ - ٤٦]، فالتنازع يؤدي إلى الفشل وذهاب الريح وهي القوة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [طه:٦١ - ٦٢]، قيل معناه: أنهم تشاجروا فيما بينهم، فقائل يقول: ليس هذا بكلام ساحر، إنما هذا كلام نبي، وقائل يقول: بل هو ساحر، وقيل غير ذلك.
والله أعلم.
{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه:٦٢] فيما بينهم].
المهم أنهم تنازعوا واختلفوا، فصار في هذا هزيمة لهم ونصر لموسى وهارون عليهم الصلاة والسلام.