للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى)]

يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:١٠١] قال عكرمة: الرحمة.

وقال غيره: السعادة، {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:١٠١].

قال المصنف رحمه الله تعالى: [لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله، عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسوله، وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة، وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا، كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦].

وقال: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:٦٠] فكما أحسنوا العمل في الدنيا أحسن الله مآبهم وثوابهم، ونجاهم من العذاب وحصل لهم جزيل الثواب، فقال: {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:١٠١ - ١٠٢] أي: حريقها في الأجساد.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا محمد بن عمار قال: حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة عن أبيه عن الجريري عن أبي عثمان: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:١٠٢] قال: حيات على الصراط تلسعهم، فإذا لسعتهم قال: حس.

حس.

وقوله: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:١٠٢] فسلمهم من المحذور والمرهوب، وحصل لهم المطلوب والمحبوب.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي شريح حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني].

ليس ابن أبي شريح بل شريج بالجيم، أما الهمداني فبالدال المهملة؛ لأنه نسبة إلى قبيلة همدان، أما بالذال -همذاني- وبفتح الميم فنسبة إلى بلدة في الشرق، في إيران.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن ليث بن أسليم عن ابن عم النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير قال: وسمر مع علي ذات ليلة فقرأ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:١٠١] قال: أنا منهم، وعمر منهم، وعثمان منهم، والزبير منهم، وطلحة منهم، وعبد الرحمن منهم، أو قال: سعد منهم، قال: وأقيمت الصلاة، فقام وأظنه يجر ثوبه وهو يقول: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:١٠٢]].

والحديث فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف لكن معناه صحيح، فلا شك أن من الذين سبقت لهم منه الحسنى علياً وكذا الزبير وطلحة فهم من المبشرين بالجنة رضي الله عنهم وأرضاهم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال شعبة عن أبي بشر عن يوسف المكي عن محمد بن حاطب قال: سمعت علياً يقول في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:١٠١] قال: عثمان وأصحابه].

فـ عثمان وأصحابه كلهم داخلين في هذا.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن أبي حاتم ورواه ابن جرير من حديث يوسف بن سعد وليس بـ ابن ماهك عن محمد بن حاطب عن علي فذكره ولفظه: عثمان منهم.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:١٠١] فأولئك أولياء الله يمرون على الصراط مراً هو أسرع من البرق، ويبقى الكفار فيها جثياً فهذا مطابق لما ذكرناه.

وقال آخرون: بل نزلت استثناء من المعبودين وخرج منهم عزير والمسيح كما قال حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وعثمان عن عطاء عن ابن عباس: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:٩٨] ثم استثنى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:١٠١] فيقال: هم الملائكة، وعيسى ونحو ذلك مما يعبد من دون الله عز وجل، وكذا قال عكرمة والحسن وابن جريج.

وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:١٠١] قال: نزلت في عيسى بن مريم وعزير عليهما السلام].

وعلى هذا يكون في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:١٠١] قولان لأهل العلم: القول الأول: أن الآية مطلقة وليست مقيدة بالآية السابقة، والمعنى أن الله أخبر أن الذي سبقت لهم من الله السعادة مبعدون عن النار لا يدخلونها ولا يسمعون حسيسها.

والقول الثاني: أنها مستثناة من المعبودين في قوله عز وجل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:٩٨] ثم استثنى سبحانه وتعالى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:١٠١] فلا يدخلون النار فالعابد والمعبود في النار جميعاً إلا من سبقت لهم من الله الحسنى: كالملائكة، والمسيح وعزير، فإن هؤلاء سبقت لهم من الله الحسنى ولم يرضوا بعبادة من عبدهم من دون الله فهم مستثنون.

أما ما عداهم من المعبودات فهي مع من عبدها، فالشمس والقمر يكوران ويلقيان في النار مع من عبدهما، والأصنام والأوثان كلها مع من عبدها، فلا يستثنى إلا من سبقت لهم من الله الحسنى من الملائكة والأنبياء والصالحين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا الحسين بن عيسى بن ميسرة حدثنا أبو زهير حدثنا سعد بن طريف عن الأصبغ عن علي في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:١٠١] قال: كل شيء يعبد من دون الله في النار إلا الشمس والقمر وعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.

إسناده ضعيف].

وهذا ضعيف؛ لأن الشمس والقمر كما جاء في الحديث يكوران ويلقيان في النار.

أما سعد بن طريف فهو سعد بن طريف الإسكافي الحنظلي الكوفي متروك، ورماه ابن حبان بالوضع وكان رافضياً.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:١٠١]، قال: عيسى، وعزير، والملائكة.

وقال الضحاك: عيسى، ومريم، والملائكة، والشمس، والقمر.

وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي صالح وغير واحد.

وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثًا غريباً جداً فقال: حدثنا الفضل بن يعقوب الرخامي].

حدثنا سعيد بن مسلمة بن عبد الملك حدثنا الليث بن أبي سليم عن مغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:١٠١] قال: عيسى وعزير والملائكة.

وذكر بعضهم قصة ابن الزبعري ومناظرة المشركين].

والحديث فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف لكن هؤلاء لا شك أنهم مستثنون: عيسى والملائكة وعزير، أما قصة ابن الزبعري فقد تكلم عنها المصنف رحمه الله فقال: [قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن سهل حدثنا محمد بن حسن الأنماطي حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة حدثنا يزيد بن أبي حكيم حدثنا الحكم يعني: ابن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: (جاء عبد الله بن الزبعري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:٩٨]، فقال ابن الزبعري: قد عبدت الشمس والقمر والملائكة، وعزير وعيسى بن مريم كل هؤلاء في النار مع آلهتنا؟ فنزلت: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:٥٧ - ٥٨].

ثم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:١٠١]) رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابه الأحاديث المختارة].

أما الأحاديث المختارة فهي جيدة يقول شيخ الإسلام: إنها أجود من أحاديث الحاكم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا