للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله)]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم، واختار الله تعالى لهم ذلك، وأخبر عنهم بذلك في قوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف:١٦] أي: وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضًا بأبدانكم، {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:١٦] أي: يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم، {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ} [الكهف:١٦] أي: الذي أنتم فيه، {مِرفَقًا} [الكهف:١٦] أي: أمرًا ترتفقون به، فعند ذلك خرجوا هرباً إلى الكهف، فأووا إليه، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم، وتطلبهم الملك فيقال: إنه لم يظفر بهم، وعمى الله عليه خبرهم، كما فعل بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق، حين لجآ إلى غار ثور، وجاء المشركون من قريش في الطلب، فلم يهتدوا إليه مع أنهم يمرون عليه، وعندها قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جزع الصديق في قوله: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا، فقال: (يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)، وقد قال تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:٤٠]].

وهذه معية خاصة، فمعية الله للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، هي معية خاصة عند أهل العلم، وهي معية نصر وتأييد وتوفيق وتسديد.

وهناك معية أخرى تسمى المعية العامة، فهذه المعية تحصل لكل أحد، وهي عامة للمؤمن والكافر، ومقتضاها الاطلاع والإحاطة والمحاسبة والمجازاة، أما المعية الخاصة فهي معية نصر وتأييد، ومقتضاها الحفظ والكلاءة والنصرة والتأييد.

فالمؤمن له المعيتان: المعية العامة والمعية الخاصة، والله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:١٢٨] وقال: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:٤٦] هذه معية خاصة.

وينفرد الكافر بالمعية العامة، فالمعية العامة من مقتضاها الإحاطة والاطلاع، وتأتي في سياق المحاسبة والمجازاة والتخويف، والمعية الخاصة مقتضاها النصر والتأييد والحفظ والكلاءة، وتأتي في سياق المدح والثناء.

فالمؤمن تجتمع في حقه المعيتان، والكافر له المعية العامة، فالعامة للمؤمن والكافر، والمعية الخاصة خاصة بالمؤمن.

والمعية مقتضاها المصاحبة ولا تقتضي الاختلاط والامتزاج كما قد يفهمه بعض أهل الزيغ والضلال، فهو سبحانه وتعالى مع كل أحد باطلاعه وعلمه وإحاطته ومحاسبته ومجازاته، ومع المؤمنين بنصره وتأييده وهو فوق العرش سبحانه وتعالى، لا يخفى عليه خافية.

فإن العرب تقول: مازلنا نسير والقمر معنا، مازلنا نسير والنجم معنا، والقمر فوقهم، فهذه معية تقتضي المصاحبة.

ولها معانٍ متعددة منها: أن يكون الإنسان ذاته مع الشخص، فيقول: أنا معك يعني: بذاته.

ومن معانيها: أن يكون معهم بقوته، فيقول: اذهب وأنا معك، يعني: بقوتي، ويقول الملك: اذهب وأنا معك، يقصد الجيش معه بالقوة وهو في مكانه.

ومن معانيها: أن يكون معه بالمال كأن يقول: اذهب وأنا معك يعني: بمالي، وتقول العرب: فلان وزوجته معه، وقد تكون هي في المشرق وهو في المغرب، فهذه المعية لا تقتضي المماسة ولا المحاذاة.

ويطلع الإنسان على الصبي وهو يبكي أسفل ويكون في الدور الثاني أو الثالث، فيقول للطفل: أنا معك، فيسكت الطفل، فهذه معية.

وبالمناسبة الأحناف يقولون: لو تزوج مشرقي من مغربية يعني: رجل في المشرق تزوج امرأة في المغرب، ثم أتت منه بولد في ستة أشهر، ألحقنا الولد به ولو لم يستطع الاتصال، وكان في ذلك الوقت يصعب الاتصال بين الناس بالمشرق والمغرب.

ولهذا بقية بن مخلد سافر من الأندلس في المغرب إلى المشرق في العراق إلى الإمام أحمد خلال سنتين وهو في الطريق، يريد أن يطلب الحديث عنه فلما جاء وجده مفتوناً بخلق القرآن فدق عليه الباب، وقال: إنني جئت لأطلب الحديث، فأخبره أنه مفتون، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أسافر مدة سنتين ومفتون! فأمره بأن يأتيه كل يوم على شكل شحات، يأتي ويملي عليه الحديث أو الحديثين.

فالاتصال من المشرق إلى المغرب في ذلك الوقت شبه مستحيل، والمواصلات صعبة ومع ذلك يقول الأحناف: نلحق به الولد؛ حفظاً للأنساب ولجواز أن يكون من أهل الخطوة، يعني: الكرامة، من أنه جاء واستغفل بها، وإلا ما يمكن؛ لأن المدة طويلة يقطعها من المشرق إلى المغرب.

لكن الآن المواصلات سهلة، ففي نصف يوم يأتي من المشرق إلى المغرب.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقصة هذا الغار أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف].

أي قصة الغار الذي اختفى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر لما طلبهم قريش لا شك أنه أشرف وأعلى وأفضل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قيل: إن قومهم ظفروا بهم ووقفوا على باب الغار الذي دخلوه، فقالوا: ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم، فأمر الملك بردم بابه عليهم ليهلكوا مكانهم ففعلوا ذلك، وفي هذا نظر.

والله أعلم.

فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرة وعشياً، كما قال تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:١٧].

فهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال؛ لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ((ذَاتَ الْيَمِينِ)) أي: يتقلص الفيء يمنة كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة: ((تَزَاوَرُ)) أي: تميل؛ وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان، ولهذا قال: {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:١٧] أي: تدخل إلى غارهم من شمال بابه وهو من ناحية المشرق فدل على صحة ما قلناه، وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب، وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب، ولو كان من ناحية القبلة لما دخله منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً؛ ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب فتعين ما ذكرناه ولله الحمد].

وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه على أصحاب الكهف؛ وذلك أنهم لجئوا إلى الله وسألوه أن يلطف بهم وأن يجعل عاقبتهم رشداً، قال تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:١٠]، فيه اللجوء إلى الله والضراعة إليه عند الملمات والشدائد.

فأصحاب الكهف لجئوا إلى الله وتضرعوا إليه، وسألوه أن يلطف بهم ويرحمهم، وأن يجعل عاقبتهم رشداً، فلطف بهم سبحانه وتعالى، وحفظهم من قومهم، وأراحهم وجعلهم آية وعبرة في هذا الكهف، حيث أنامهم هذه المدة الطويلة، ومن فضله سبحانه وتعالى وإحسانه إليهم أن جعل باب الغار جهة الشمال حتى لا تحرقهم الشمس، إذ لو كانوا في الشرق أو الغرب لأحرقت الشمس أبدانهم، ولكن لما كانوا جهة الشمال صارت الشمس تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال.

وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه إليهم، حيث حفظ أبدانهم عن الفساد وجعلهم آية، وحفظهم من قومهم لئلا يفتنوهم في دينهم.

فكان من نعمة الله تعالى على هؤلاء المؤمنين أن قبل دعاءهم لما فعلوا الأسباب وفروا بدينهم، ولجئوا إلى الله وتضرعوا إليه وسألوه أن يلطف بهم، وأن يجعل عاقبتهم رشداً.

فهم فعلوا الأسباب حين فروا بدينهم من قومهم، وبذلوا ما يستطيعون من الأسباب بعد أن دعوا قومهم إلى الله وبينوا ما هم عليه من الشرك والباطل، لذلك فإن الله تعالى حفظهم، وحفظ دينهم وأبدانهم، وجعلهم عبرة وآية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: (تقرضهم) تتركهم، وقد أخبر الله تعالى بذلك وأراد منا فهمه وتدبره، ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض، إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي، وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالاً، فتقدم عن ابن عباس أنه قال: هو قريب من أيلة، وقال ابن إسحاق: هو عند نينوى، وقيل: ببلاد الروم، وقيل: ببلاد البلقاء، والله أعلم بأي بلاد الله هو].

وهذه الأقوال كلها لا دليل عليها، كونه من أيلة، أو بنينوى في العراق، أو بلاد البلقاء، أيضاً كذلك في الشام، أو في بلاد الروم، فكل هذه الأقوال تخمين لا دليل عليها.

ولا يترتب على معرفة المكان فائدة، ولو كان يترتب عليه فائدة لبينه الله لنا، إنما الفائدة في قصتهم وما جرى لهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله إليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت شيئاً يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به) فأعلمنا تعالى بصفته ولم يعلمنا بمكانه فقال: {وَتَرَى الشَّم