[تنبيه ينبغي الوقوف عليه]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [تنبيه ينبغي الوقوف عليه.
قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:٢٣] وقوله في سورة يونس: {بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:٣٨] يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أم قصيرة؛ لأنها نكرة في سياق الشرط، فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه].
هذه مسألة أصولية، وهي أن النكرة في سياق النفي أو الشرط تعم، ومن ذلك حديث: (لا تدع صورة إلا طمستها)، فـ (صورة) نكرة في سياق النهي تعم، وهذا هو قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي رضي الله عنه، فتشمل أي صورة مجسمة أو غير مجسمة، لها ظل أو ليس لها ظل، فتوغرافية كانت أو باليد أو بالرسم في الجدار أو في الورق، هذا هو مقتضى القاعدة الأصولية، ثم الطمس إنما يكون في الشيء الذي يكون في الورق، وفيه رد على من قال: إنها لا تحرم إلا الصورة التي لها ظل، وهي المجسمة، وكذلك قوله تعالى هنا: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:٢٣] أي: سورة طويلة أو قصيرة، وفيه الرد على من قال: إنه لا يتحدى إلا بالسورة الطويلة، فهذه من فوائد المباحث الأصولية والقواعد الأصولية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها، وهذا لا أعلم فيه نزاعاً بين الناس سلفاً وخلفاً، وقد قال الرازي في تفسيره: فإن قيل: قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:٢٣] يتناول سورة الكوثر، وسورة العصر، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:١] ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن، فإن قلتم: إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدار البشر كان مكابرة، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين، قلنا: فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني، وقلنا: إن بلغت هذه السورة في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود، وإن لم يكن كذلك كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجزاً، فعلى التقديرين يحصل المعجز.
هذا لفظه بحروفه، والصواب أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة، قال الشافعي رحمه الله: لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:١ - ٣]].
وفي لفظ أنه قال: لو ما أنزل الله على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم يعني: هذه السورة فيها بيان صفات الرابحين وصفات الخاسرين، حيث قال تعالى: {وَالْعَصْرِ} [العصر:١] قسم من الله، {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:٢] والإنسان اللام فيه للجنس، أي: جنس الإنسان في خسر، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:٣] و (الذين آمنوا) يعني: الذين وحدوا الله، وأخلصوا له العبادة، (وعملوا الصالحات) أدوا الواجبات وانتهوا عن المحرمات، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:٣] أوصى بعضهم بعضاً بالحق والمعروف والخير.
{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [البلد:١٧] شملت الخير كله، فالتوحيد وعمل الصالحات يشتملان جميع أصول الدين وفروعه، فهي شاملة، ولهذا قال الشافعي: لوما أنزل الله على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم، وقامت بها الحجة عليهم.
والرازي يقول: القصار يمكن الإتيان بمثلها.
كما في تفسيره مفاتيح الغيب، وهذا ليس بصحيح، فـ الرازي له أغلاط وله أخطاء، حتى قال بعضهم: إن كتابه مفاتيح الغيب في التفسير فيه كل شيء إلا التفسير، ففيه الطب، وفيه الفلك، وفيه الفلسفة، وفيه الجغرافيا، والزراعة، والتجارة، وكل شيء فيه إلا التفسير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روينا عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين؟ فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال: وما هي؟ فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:١ - ٢] ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل علي مثلها.
فقال: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حقر نقر ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني لأعلم أنك تكذب].
وكان هذا قبل أن يسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه.
وقد ادعى النبوة مسيلمة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتبعه بنو حنيفة وافتتنوا به فتنة عظيمة، حتى إن الصحابة رضوان الله عليهم قاتلوهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فوقفوا مع مسيلمة وقفة شديدة، حتى قتل مجموعة كبيرة من القراء، وخاف الصحابة من ذهاب القراء، وجمع أبو بكر رضي الله عنه القرآن، ثم بعد ذلك هزمه الله وقتله الله على يد الصحابة رضوان الله عليهم، وأسلم بنو حنيفة.