[تفسير قوله تعالى: (وعلمناه صنعة لبوس لكم)]
قال الله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء:٨٠].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يعني: صنعة الدروع.
قال قتادة: إنما كانت الدروع قبله صفائح، وهو أول من سردها حلقاً، كما قال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:١٠ - ١١] أي: لا توسع الحلقة فتقلق المسمار، ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة، ولهذا قال: ((لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ)) يعني: في القتال].
يعني: أن الحلقة تكون بمقدار المسمار لا تزيد عليه، ولا يكون المسمار غليظاً فيخرق الحلقة، ولا تكون الحلقة واسعة فيقلق ويتحرك المسمار، وإنما يقدر في السرد تقديراً، كما قال سبحانه: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:١١].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ)) أي: نعم الله عليكم، لما ألهم به عبده داود، فعلمه ذلك من أجلكم.
وقوله: ((وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً)) أي: وسخرنا لسليمان الريح العاصفة.
((تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا)) يعني: أرض الشام.
((وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ)) وذلك أنه كان له بساط من خشب يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة والخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح أن تحمله، فتدخل تحته، ثم تحمله وترفعه وتسير به، وتظله الطير تقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض، فينزل، وتوضع آلاته وحشمه، قال الله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:٣٦]، وقال تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:١٢].
قال ابن أبي حاتم: ذكر عن سفيان بن عيينة عن أبي سنان عن سعيد بن جبير قال: كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي، فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس، ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن، ثم يأمر الطير فتظلهم، ثم يأمر الريح فتحمله صلى الله عليه وسلم].
وهذه خاصية أعطاها الله سليمان عليه الصلاة والسلام ولم يعطها أحداً بعده، ولهذا سأله سليمان: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:٣٥]، فالله عز وجل سخر له الريح والشياطين والجن، ولهذا لما عرض عفريت على النبي صلى الله عليه عليه وسلم خنقه وقال: (أردت أن أربطه في سارية من سواري المسجد حتى يلعب صبيان المدينة، فذكرت قول أخي سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:٣٥] فتركته)، يعني: أن تسخير الجن والشياطين خاص بسليمان، فخشي النبي صلى الله عليه عليه وسلم أنه لو ربط هذا الشيطان في سارية يكون هذا مشاركة لسليمان في ملكه، فلذلك أطلقه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان سليمان يأمر الريح فتجتمع كالطود العظيم كالجبل، ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها، ثم يدعو بفرس من ذوات الأجنحة، فترتفع حتى يصعد على فراشه، ثم يأمر الريح فترتفع به كل شرف دون السماء، وهو مطأطئ رأسه، ما يلتفت يميناً ولا شمالاً؛ تعظيماً لله عز وجل، وشكراً لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله عز وجل، حتى تضعه الريح حيث يشاء أن تضعه.
وقوله: ((وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ)) أي: في الماء يستخرجون اللآلئ والجواهر وغير ذلك.
((وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ)) أي: غير ذلك، كما قال الله تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ} [ص:٣٧ - ٣٨]].
يعني: بعضهم يبني وبعضهم يستخرج اللآلئ، وبعضهم مصفد مربوط في الأغلال؛ لتمردهم، فإنه عليه الصلاة والسلام سلط عليهم فكان يربط المتمردين، ومنهم غير ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ)) أي: يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء، بل كل في قبضته وتحت قهره لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه، بل هو يحكم فيهم: إن شاء أطلق، وإن شاء حبس منهم من يشاء.
ولهذا قال: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ} [ص:٣٨]].
وهذا مما خص عليه الصلاة والسلام به، ولهذا مات وهو متكئ على عصاه ولم تعلم الجن بوفاته، بل كانوا يعملون ويشتغلون وهم يظنون أن سليمان حي، فلم يعلموا حتى سقط، وذلك لما أكلت الأرضة العصا فسقطت العصا فسقط سليمان، فعرفوا أنه مات، كما قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:١٤] فكانوا يشتغلون ويعملون أعمالاً شاقة وسليمان ميت له مدة على العصا ولم يعلموا.