للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذكر المنافقين الكافرين بعد الإسلام]

قال الله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:١٧ - ١٨].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقال: مثل ومثل ومثيل أيضاً، والجمع أمثال، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:٤٣] وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى بمن استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وتأنس بها؛ فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياءً لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغي على الرشد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع، والله أعلم].

إن المنافقين من أخطر أعداء الله على المسلمين، وهم أشد الناس كفراً وضلالاً؛ وذلك لأنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فيلتبس أمرهم على المسلمين، ولهذا جلى الله سبحانه وتعالى صفاتهم في مواضع من كتابه، ومن ذلك هذه السورة الكريمة، فلقد ذكر الله تعالى وصفهم في ثلاث عشرة آية، بينما ذكر المؤمنين باطناً وظاهراً في أربع آيات، والكفار ظاهراً وباطناً في آيتين.

وأما المنافقون فلشدة خطرهم والتباسهم وشدة عداوتهم للإسلام والمسلمين جلى الله صفاتهم، ومن ذلك ما ذكره الله تعالى في هذه الآيات أنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وأنهم يخادعون الله ورسوله، وأنهم يصفون المؤمنين بالسفه، وأنهم لهم وجه مع المؤمنين ووجه مع الكافرين.

والمنافقون أصناف، فهذا الصنف من المنافقين كانوا على الإيمان أولاً ثم كفروا، أي أنهم كانوا مؤمنين أبصروا الهدى ورأوا الحق، ثم عموا عن الحق -والعياذ بالله- وانتكسوا وارتكسوا، نسأل الله السلامة والعافية.

وقد ضرب الله لهم هذا المثل الناري فقال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} يعني: مثل إنسان كان في البرية أوقد ناراً فأضاءت فأبصر ما حوله وصار يرى كل شيء حوله، فهذا فيه تمثيل لهم بأنهم آمنوا، وذلك أنهم آمنوا أولاً وأبصروا الحق، ثم رجعوا بعد ذلك إلى الكفر فانطفأت هذه النار، فصاروا لا يبصرون ما حولهم، فكأنهم صاروا في ظلام دامس، ومع ذلك كل واحد منهم أصم لا يستطيع السمع، وأعمى لا يبصر حتى ولو لم يكن هناك ظلمة، وأبكم لا يتكلم، فكيف تكون حاله؟! فهذه حال المنافقين، نسأل الله السلامة والعافية.

وأما الصنف الثاني من الذين ضرب لهم المثل الناري؛ فهم أناس عندهم إيمان لكنه يخبو أحياناً ويضيء أحياناً، فأحياناً يكون عندهم إيمان وأحياناً يزول بسبب شكوكهم وغيهم.

وقوله: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى)) يعني: اعتاضوا الضلالة بالهدى، والباء تدخل على المتروك، أي أنهم تركوا الهدى وأخذوا الضلالة، فهم رغبوا في الضلالة كما يرغب المشتري في السلعة، نسأل الله السلامة والعافية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي، ثم قال: والتشبيه ههنا في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولاً نوراً، ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك، فوقعوا في حيرة عظيمة، فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.

وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل ههنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:٨]، والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ثم سلبوه وطبع على قلوبهم.

ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية ههنا، وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:٣]، فلهذا وجه هذا المثل بأنهم استضاءوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي: في الدنيا، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة، قال: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال: {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:١٩] أي: كدوران الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:٢٨]، وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:٥].

وقال بعضهم: تقدير الكلام: مثل قصتهم كقصة الذي استوقد ناراً وقال بعضهم: المستوقد واحد لجماعة معه، وقال آخرون: (الذي) ههنا بمعنى (الذين) كما قال الشاعر: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد].

قوله: (وإن الذي)، أي: وإن الذين، فتأتي (الذي) بمعنى (الذين).

وابن جرير رحمه الله شيخ المفسرين، وله اليد الطولى في التفسير، ولكن قد يكون له بعض الآراء المرجوحة، والحافظ ابن كثير رحمه الله لخص تفسيره وأتى بتحقيقات جيدة، فهو يتعقب ابن جرير ويخالفه أحياناً في الترجيح، ومن المعلوم أن ابن جرير له اليد الطولى وله السبق، وهو كما قال ابن مالك لما سبقه ابن معط في تأليف ألفية في علم النحو: وهو بسبق حائز تفضيلاً مستوجب ثنائي الجميلا قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:١٧ - ١٨]، وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النظام.

وقوله تعالى: ((ذهب الله بنورهم)) أي: ذهب عنهم بما ينفعهم، وهو النور، وأبقى لهم ما يضرهم، وهو الإحراق والدخان.

((وتركهم في ظلمات)) هو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق.

((لا يبصرون)): لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها، وهم مع ذلك (صم) لا يسمعون خيراً، (بكم) لا يتكلمون بما ينفعهم، (عمي) في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:٤٦]].

وقع في الآية أسلوب بلاغي معروف في اللغة يسمى الالتفات، أي: يلتفت من الغيبة إلى الخطاب، أو يلتفت من الخطاب إلى الغيبة، ونحو ذلك.

قوله: ((صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)) المقصود به الصمم والبكم والعمى المعنوي، فهم لا يرون الحق، ولا يتكلمون بالحق، ولا يسمعون الحق، وإن كانت أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم سليمة، وخاصة في أمور دنياهم، فهم في أمور دنياهم يتكلمون، وليس الواحد منهم أخرس، وكذلك يسمعون كلام الدنيا وأمورها، وكذلك -أيضاً- يبصرون أمور دنياهم، لكنهم لا يبصرون الحق، ولا يقبلونه، ولا يتكلمون به.