يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ أي إذا داين بعضكم بعضاً، تقول: داينته إذا عاملته نسيئة معطياً أو آخذاً. وفائدة ذكر الدين أن لا يتوهم من التداين المجازاة ويعلم تنوعه إلى المؤجل والحال، وأنه الباعث على الكتبة ويكون مرجع ضمير فاكتبوه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معلوم بالأيام والأشهر لا بالحصاد وقدوم الحاج.
فَاكْتُبُوهُ لأنه أوثق وادفع للنزاع، والجمهور على أنه استحباب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن المراد به السلم وقال لما حرم الله الربا أباح السلم) . وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ من يكتب السوية لا يزيد ولا ينقص، وهو في الحقيقة أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين حتى يجيء مكتوبه موثوقاً به معدلاً بالشرع.
وَلا يَأْبَ كاتِبٌ ولا يمتنع أحد من الكتاب. أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ مثل ما علمه الله من كتبة الوثائق، أو لا يأب أن ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها كقوله: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ. فَلْيَكْتُبْ تلك الكتابة المعلمة. أمر بها بعد النهي عن الإِباء عنها تأكيداً، ويجوز أن تتعلق الكاف بالأمر فيكون النهي عن الامتناع منها مطلقة ثم الأمر بها مقيدة. وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وليكن المملي من عليه الحق لأنه المقر المشهود عليه، والإِملال والإِملاء واحد. وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أي المملي. أو الكاتب. وَلا يَبْخَسْ ولا ينقص. مِنْهُ شَيْئاً أي من الحق، أو مما أملى عليه. فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً ناقص العقل مبذراً.
أَوْ ضَعِيفاً صبياً أو شيخاً مختلاً. أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ أو غير مستطيع للإِملال بنفسه لخرس أو جهل باللغة. فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ أي الذي يلي أمره ويقوم مقامه من قيم إن كان صبياً أو مختل العقل، أو وكيل أو مترجم إن كان غير مستطيع. وهو دليل جريان النيابة في الإِقرار ولعله مخصوص بما تعاطاه القيم أو الوكيل. وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ واطلبوا أن يشهد على الدين شاهدان. مِنْ رِجالِكُمْ من رجال المسلمين، وهو دليل اشتراط إسلام الشهود وإليه ذهب عامة العلماء وقال أبو حنيفة: تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض. فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فإن لم يكن الشاهدان رجلين. فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ فليشهد أو فليستشهد رجل وامرأتان، وهذا مخصوص بالأموال عندنا وبما عدا الحدود والقصاص عند أبي حنيفة. مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ لعلمكم بعدالتهم. أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى علة اعتبار العدد أي لأجل أن إحداهما إن ضلت الشهادة بأن نسيتها ذكرتها الأخرى، والعلة في الحقيقة التذكير ولكن لما كان الضلال سبباً له نزل منزلته كقولهم: أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه، وكأنه قيل: إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، وفيه إشعار بنقصان عقلهن وقلة ضبطهن. وقرأ حمزة أَنْ تَضِلَّ على الشرط «فتذكر» بالرفع. وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب فَتُذَكِّرَ من الإِذكار. وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا لأداء الشهادة أو التحمل.
وسموا شهداء قبل التحمل تنزيلاً لما يشارف منزلة الواقع وما مزيدة. وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ ولا تملوا من كثرة مدايناتكم أن تكتبوا الدين أو الحق أو الكتاب. وقيل كنى بالسأم عن الكسل لأنه صفة المنافق، ولذلك
قال عليه الصلاة والسلام «لا يقول المؤمن كسلت»
صَغِيراً أَوْ كَبِيراً صغيراً كان الحق أو كبيراً، أو مختصراً كان الكتاب أو مشبعاً. إِلى أَجَلِهِ إلى وقت حلوله الذي أقر به المديون. ذلِكُمْ إشارة إلى أن تَكتبوه. أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أكثر قسطاً. وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وأثبت لها وأعون على إقامتها، وهما مبنيان من أقسط وأقام على غير قياس، أو من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم، وإنما صحت الواو في أَقْوَمُ كما صحت في التعجب لجموده. وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا وأقرب في أن لا تشكوا في جنس الدين وقدره وأجله والشهود ونحو ذلك. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها استثناء من الأمر بالكتابة والتجارة الحاضرة تعم المبايعة بدين أو عين، وإدارتها بينهم تعاطيهم إياها يداً بيد أي: إلا أن تتبايعوا يداً بيد فلا بأس أن لا تكتبوا، لبعده عن التنازع والنسيان. ونصب عاصم تِجارَةً على أنه الخبر والاسم مضمر تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كقوله: