لما كان معظم اللذات الحسية مقصوراً على: المساكن والمطاعم، والمناكح، على ما دل عليه الاستقراء كان ملاك ذلك كله الدوام والثبات، فإن كل نعمة جليلة إذا قارنها خوف الزوال كانت منغصة غير صافية من شوائب الألم، بشر المؤمنين بها ومثل ما أعد لهم في الآخرة بأبهى ما يستلذ به منها، وأزال عنهم خوف الفوات بوعد الخلود ليدل على كمالهم في التنعم والسرور.
[[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦]]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦)
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً لما كانت الآيات السابقة متضمنة لأنواع من التمثيل، عقب ذلك ببيان حسنه، وما هو الحق له والشرط فيه، وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر والخسة والشرف دون الممثل، فإن التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس، ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم، لأن من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء، وإشارات الحكماء، فيمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم بالعظيم، وإن كان المثل أعظم من كل عظيم، كما مثل في الإنجيل غل الصدور بالنخالة، والقلوب القاسية بالحصاة. ومخاطبة السفهاء بإثارة الزنابير. وجاء في كلام العرب: أسمع من قراد وأطيش من فراشه، وأعز من مخ البعوض. لا ما قالت الجهلة، من الكفار: لِمَا مثل الله حال المنافقين بحال المستوقدين؟
وأصحاب الصيب وعبادة الأصنام في الوهن والضعف ببيت العنكبوت؟ وجعلها أقل من الذباب وأخس قدراً منه؟ الله سبحانه وتعالى أعلى وأجل من أن يضرب الأمثال ويذكر الذباب والعنكبوت. وأيضاً، لِمَا أرشدهم إلى ما يدل على أن المتحدي به وحي منزل؟ ورتب عليه وعيد من كفر به ووعد من آمن به بعد ظهور أمره؟
شَرَعَ في جواب ما طعنوا به فيه فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها. والحياء: انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم، وهو الوسط بين الوقاحة:
التي هي الجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها، والخجل: الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقاً.
واشتقاقه من الحياة فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية فيردها عن أفعالها فقيل: حيي الرجل كما يقال نسي وحشي، إذا اعتلت نساه وحشاه. وإذا وصف به الباري تعالى كما
جاء في الحديث «إن الله يستحيي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه»
. «إن الله حي كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً»
فالمراد به الترك اللازم للانقباض، كما أن المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما، ونظيره قول من يصف إبلا:
إذا ما اسْتَحينَ الماءَ يعْرضُ نَفْسَه ... كَرَعْنَ بسَبْتٍ في إناءٍ من الوَرْدِ
وإنما عدل به عن الترك، لما فيه من التمثيل والمبالغة، وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيئه على المقابلة لما وقع في كلام الكفرة. وضرب المثل اعتماله من ضرب الخاتم، وأصله وقع شيء على آخر، وأَنْ بصلتها مخفوض المحل عند الخليل بإضمار من، منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها عند سيبويه. وما إبهامية تزيد النكرة إبهاماً وشياعاً وتسد عنها طرق التقييد، كقولك أعطني كتاباً ما، أي: أي كتاب كان. أو مزيدة للتأكيد كالتي في قوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ولا نعني بالمزيد اللغو الضائع، فإن القرآن كله هدى وبيان، بل ما لم يوضع لمعنى يراد منه، وإنما وضعت لأن تذكر مع غيرها فتفيد له وثاقةً وقوةً وهو زيادة في الهدى غير قادح فيه. وبعوضة عطف بيان لمثلاً. أو مفعول ليضرب، ومثلاً حال تقدمت عليه لأنه