فيها جميع الأمة كالعلم بالأحكام ومراتب الاحتساب وكيفية إقامتها والتمكن من القيام بها. خاطب الجميع وطلب فعل بعضهم ليدل على أنه واجب على الكل حتى لو تركوه رأساً أثموا جميعاً ولكن يسقط بفعل بعضهم، وهكذا كل ما هو فرض كفاية. أو للتبيين بمعنى وكونوا أمة يدعون كقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ. والدعاء إلى الخير يعم الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي، وعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عطف الخاص على العام للإيذان بفضله. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ المخصوصون بكمال الفلاح
وروي أنه عليه السلام سئل من خير الناس فقال: «آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم»
. والأمر بالمعروف يكون واجباً ومندوباً على حسب ما يؤمر به. والنهي عن المنكر واجب كله لأن جميع ما أنكره الشرع حرام. والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه لأنه يجب عليه تركه وإنكاره فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر.
[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٥]]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا كاليهود والنصارى اختلفوا في التوحيد والتنزيه وأحوال الآخرة على ما عرفت. مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه. والأظهر أن النهي فيه مخصوص بالتفرق في الأصول دون الفروع
لقوله عليه السلام «اختلاف أمتي رحمة» .
ولقوله عليه الصلاة والسلام «من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد»
. وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وعيد للذين تفرقوا وتهديد على التشبه بهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٧]
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ نصب بما في لهم من معنى الفعل، أو بإضمار اذكر. وبياض الوجه وسواده كنايتان عن ظهور بهجة السرور وكآبة الخوف فيه. وقيل يوسم أهل الحق ببياض الوجه والصحيفة وإشراق البشرة وسعي النور بين يديه وبيمينه، وأهل الباطل بأضداد ذلك. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ على إرادة القول أي فيقال لهم أكفرتم، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم، وهم المرتدون أو أهل الكتاب كفروا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد إيمانهم به قبل مبعثه، أو جميع الكفار كفروا بعد ما أقروا به حين أشهدهم على أنفسهم أو تمكنوا من الإِيمان بالنظر في الدلائل والآيات. فَذُوقُوا الْعَذابَ أمر إهانة. بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب كفركم أو جزاء لكفركم.
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ يعني الجنة والثواب المخلد، عبر عن ذلك بالرحمة تنبيهاً على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى لا يدخل الجنة إلا برحمته وفضله، وكان حق الترتيب أن يقدم ذكرهم لكن قصد أن يكون مطلع الكلام ومقطعه حلية المؤمنين وثوابهم. هُمْ فِيها خالِدُونَ أخرجه مخرج الاستئناف للتأكيد كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقال هم فيها خالدون.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٨ الى ١٠٩]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ الواردة في وعده ووعيده نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ملتبسة بالحق لا شبهة فيها. وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ إذ يستحيل الظلم منه لأنه لا يحق عليه شيء فيظلم بنقصه، ولا يمنع عن شيء فيظلم بفعله، لأنه المالك على الإِطلاق كما قال.