للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمعنى آمنوا إيماناً مقروناً بالإخلاص متمحضاً عن شوائب النفاق مماثلاً لإيمانهم، واستدل به على قبول توبة الزنديق وأن الإقرار باللسان إيمان وإن لم يفد التقييد.

قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ الهمزة فيه للإنكار، واللام مشار بها إلى الناس، أو الجنس بأسره وهم مندرجون فيه على زعمهم، وإنما سَفَّهُوهُم لاعتقادهم فساد رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي: كصهيب وبلال، أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه. والسفه: خفة وسخافة رأي يقتضيهما نقصان العقل، والحلم يقابله.

أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لاَّ يَعْلَمُونَ رد ومبالغة في تجهيلهم، فإن الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة وأتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله، فإنه ربما يعذر وتنفعه الآيات والنذر، وإنما فصلت الآية ب لاَّ يَعْلَمُونَ والتي قبلها ب لاَّ يَشْعُرُونَ لأنه أكثر طباقاً لذكر السفه، ولأن الوقوف على أمر الدين والتمييز بين الحق والباطل مما يفتقر إلى نظر وفكر. وأما النفاق وما فيه من الفتن والفساد فإنما يدرك بأدنى تفطن وتأمل فيما يُشَاهد من أقوالهم وأفعالهم.

[[سورة البقرة (٢) : آية ١٤]]

وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤)

وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا بيان لمعاملتهم المؤمنين والكفار، وما صدرت به القصة فمساقه لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فليس بتكرير.

روي أن ابن أبيّ وأصحابه استقبلهم نفر من الصحابة، فقال لقومه:

انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال: مرحباً بالصديق سيد بني تيم، وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم أخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال: مرحباً بسيد بني عدي الفاروق القوي في دينه، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم أخذ بيد علي رضي الله عنه فقال: مرحبا يا ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وختنه سيد بني هاشم، ما خلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فنزلت.

واللقاء المصادفة يقال لقيته ولاقيته، إذا صادفته واستقبلته، ومنه ألقيته إذا طرحته فإنك بطرحه جعلته بحيث يلقى.

وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ من خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه. أو من خلاك ذَمٌّ أي عداك ومضى عنك، ومنه القرون الخالية. أو من خلوت به إذا سخرت منه، وعدي بإلى لتضمن معنى الإنهاء، والمراد بشياطينهم الذين ماثلوا الشيطان في تمردهم، وهم المظهرون كفرهم، وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر. أو كبار المنافقين والقائلون صغارهم. وجعل سيبويه نونه تارة أصلية على أنه من شطن إذا بعد فإنه بعيد عن الصلاح، ويشهد له قولهم: تشيطن. وأخرى زائدة على أنه من شاط إذا بطل، ومن أسمائه الباطل.

قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي في الدين والاعتقاد، خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية، والشياطين بالجملة الإسمية المؤكدة بإن لأنهم قصدوا بالأولى دعوى إحداث الإيمان، وبالثانية تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه، ولأنه لم يكن لهم باعث من عقيدة وصدق رغبة فيما خاطبوا به المؤمنين، ولا توقع رواج ادعاء الكمال في الإيمان على المؤمنين من المهاجرين والأنصار بخلاف ما قالوه مع الكفار.

إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ تأكيد لما قبله، لأن المستهزئ بالشيء المستخف به مُصِرٌّ على خلافه. أو بدل منه لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر. أو استئناف فكأن الشياطين قالوا لهم لما (قالوا إنا معكم) إن صح ذلك فما بالكم توافقون المؤمنين وتدعون الإيمان فأجابوا بذلك. والاستهزاء السخرية والاستخفاف يقال:

هزئت واستهزأت بمعنى كأجبت واستجبت، وأصله الخفة من الهزء وهو القتل السريع يقال: هزأ فلان إذا مات على مكانه، وناقته تهزأ به أي تسرع وتخف.

<<  <  ج: ص:  >  >>