قالَ رَبِّ السِّجْنُ وقرأ يعقوب بالفتح على المصدر. أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ أي آثر عندي من مؤاتاتها زناً نظراً إلى العاقبة وإن كان هذا مما تشتهيه النفس وذلك مما تكرهه، وإسناد الدعوة إليهن جميعاً لأنهن خوفنه من مخالفتها وزين له مطاوعتها. أو دعونه إلى أنفسهن، وقيل إنما ابتلي بالسجن لقوله هذا وإنما كان الأولى به أن يسأل الله العافية ولذلك رد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على من كان يسأل الصبر. وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي وإن لم تصرف عني. كَيْدَهُنَّ في تحبيب ذلك إلي وتحسينه عندي بالتثبيت على العصمة. أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أمل إلى جانبهن أو إلى أنفسهن بطبعي ومقتضى شهوتي، والصبوة الميل إلى الهوى ومنه الصبا لأن النفوس تستطيبها وتميل إليها. وقرئ أَصْبُ من الصبابة وهي الشوق. وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه فإن الحكيم لا يفعل القبيح، أو من الذين لا يعملون بما يعلمون فإنهم والجهال سواء.
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فأجاب الله دعاءه الذي تضمنه قوله: وَإِلَّا تَصْرِفْ. فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ فثبته بالعصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن وآثرها على اللذة المتضمنة للعصيان. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعاء الملتجئين إليه. الْعَلِيمُ بأحوالهم وما يصلحهم.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦)
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ ثم ظهر للعزيز وأهله من بعد ما رأوا الشواهد الدالة على براءة يوسف كشهادة الصبي وقد القميص وقطع النساء أيديهن واستعصامه عنهن وفاعل بَدا مضمر يفسره.
لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ وذلك لأنها خدعت زوجها وحملته على سجنه زماناً حتى تبصر ما يكون منه، أو يحسب الناس أنه المجرم فلبث في السجن سبع سنين. وقرئ بالتاء على أن بعضهم خاطب به العزيز على التعظيم أو العزيز ومن يليه، و «عتى» بلغة هذيل.
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ أي أدخل يوسف السجن واتفق أنه أدخل حينئذ آخران من عبيد الملك شرابيه وخبازه للاتهام بأنهما يريدان أن يسماه. قالَ أَحَدُهُما يعني الشرابي. إِنِّي أَرانِي أي في المنام وهي حكاية حال ماضية. أَعْصِرُ خَمْراً أي عنباً وسماه خمراً باعتبارِ ما يؤول إليه. وَقالَ الْآخَرُ أي الخباز. إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ تنهش منه. نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ من الذين يحسنون تأويل الرؤيا، أو من العالمين وإنما قالا ذلك لأنهما رأياه في السجن يذكر الناس ويعبر رؤياهم، أو من المحسنين إلى أهل السجن فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٧ الى ٣٨]
قالَ لاَ يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (٣٨)
قالَ لاَ يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ أي بتأويل ما قصصتما علي، أو بتأويل الطعام يعني بيان ماهيته وكيفيته فإنه يشبه تفسير المشكل، كأنه أراد أن يدعوهما إلى التوحيد ويرشدهما إلى الطريق القويم قبل أن يسعف إلى ما سألاه منه كما هو طريقة الأنبياء والنازلين منازلهم من العلماء في الهداية والإرشاد، فقدم ما يكون معجزة له من الإِخبار بالغيب ليدلهما على صدقه في الدعوة والتعبير. قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما أي