بمجموع الأمرين. والضمير في إليه للبيت، أو الحج وكل ما أتى إلى الشيء فهو سبيله. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وضع كفر موضع من لم يحج تأكيداً لوجوبه وتغليظاً على تاركه، ولذلك
قال عليه السلام «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً»
وقد أكد أمر الحج في هذه الآية من وجوه الدلالة على وجوه بصيغة الخبر، وإبرازه في الصورة الإِسمية وإيراده على وجه يفيد أنه حق واجب لله تعالى في رقاب الناس، وتعميم الحكم أولاً ثم تخصيصه ثانياً فإنه كإيضاح بعد إيهام وتثنية وتكرير للمراد، وتسمية ترك الحج كفراً من حيث إنه فعل الكفرة، وذكر الاستغناء فإنه في هذا الموضع مما يدل على المقت والخذلان وقوله:
عَنِ الْعالَمِينَ يدل عليه لما فيه من مبالغة التعميم والدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان والإِشعار بعظم السخط، لأنه تكليف شاق جامع بين كسر النفس وإتعاب البدن وصرف المال والتجرد عن الشهوات والإِقبال على الله.
روي (أنه لما نزل صدر الآية جمع رسول صلّى الله عليه وسلّم أرباب الملل فخطبهم وقال إن الله تعالى: كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وكفرت به خمس ملل فنزل ومن كفر)
. [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٨ الى ٩٩]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي بآياته السمعية والعقلية الدالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره، وتخصيص أهل الكتاب بالخطاب دليل على أن كفرهم أقبح، لأن معرفتهم بالآيات أقوى وأنهم وإن زعموا أنهم مؤمنون بالتوراة والإِنجيل فهم كافرون بهما. وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ والحال أنه شهيد مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها لا ينفعكم التحريف والاستسرار.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ كرر الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع ونفي العذر لهم، وإشعاراً بأن كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه مستقل باستجلاب العذاب، وسبيل الله في دينه الحق المأمور بسلوكه وهو الإسلام. قيل كانوا يفتنون المؤمنين ويحرشون بينهم حتى أتوا الأوس والخزرج فذكروهم ما بينهم في الجاهلية من التعادي والتحارب ليعودوا لمثله ويحتالون لصدهم عنه. تَبْغُونَها عِوَجاً حال من الواو أي باغين طالبين لها اعوجاجاً بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أن فيه عوجاً عن الحق، بمنع النسخ وتغيير صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحوهما، أو بأن تحرشوا بين المؤمنين لتختلف كلمتهم ويختل أمر دينهم. وَأَنْتُمْ شُهَداءُ إنها سبيل الله والصد عنها ضلال وإضلال، أو أنتم عدول عند أهل ملتكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعيد لهم، ولما كان المنكر في الآية الأولى كفرهم وهم يجهرون به ختمها بقوله: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ. ولما كان في هذه الآية صدهم للمؤمنين عن الإسلام وكانوا يخفونه ويحتالون فيه قال وَمَا الله بغافل عما تعملون.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٠ الى ١٠١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ نزلت في نفر من الأوس والخزرج كانوا جلوساً يتحدثون، فمر بهم شاس بن قيس اليهودي فغاظه تألفهم واجتماعهم فأمر شاباً من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وينشدهم بعض ما قيل فيه، وكان الظفر في ذلك اليوم للأوس، ففعل فتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا السلاح السلاح، واجتمع مع القبيلتين خلق عظيم، فتوجه إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه
وقال «أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإِسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بين قلوبكم»
فعلموا أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح