للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والآية مما احتج به من جوز تكليف ما لا يطاق، فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان، فلو آمنوا انقلب خبره كذبا. وشمل إيمانهم بأنهم لا يؤمنون فيجتمع الضدان، والحق أن التكليف بالممتنع لذاته وإن جاز عقلاً من حيث إن الأحكام لا تستدعي غرضاً سيما الامتثال، لكنه غير واقع للاستقراء، والإخبار بوقوع الشيء أو عدمه لا ينفي القدرة عليه كإخباره تعالى عما يفعله هو أو العبد باختياره، وفائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا ينجع إلزام الحجة، وحيازة الرسول فضل الإبلاغ، ولذلك قال سَواءٌ عَلَيْهِمْ ولم يقل سواء عليك. كما قال لعبدة الأصنام سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ.

وفي الآية إخبار بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات.

[[سورة البقرة (٢) : آية ٧]]

خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)

خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ تعليل للحكمِ السابق وبيان لما يقتضيه.

والختم الكتم، سمي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه لأنه كتم له والبلوغ آخره نظراً إلى أنه آخر فعل يفعل في إحرازه. والغشاوة: فعالة من غشاه إذا غطاه، بنيت لما يشتمل على الشيء، كالعصابة والعمامة ولا ختم ولا تغشية على الحقيقة، وإنما المراد بهما أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر والمعاصي، واستقباح الإيمان والطاعات بسبب غيهم، وانهماكهم في التقليد، وإعراضهم عن النظر الصحيح، فتجعل قلوبهم بحيث لا ينفذ فيها الحق، وأسماعهم تعاف استماعه فتصير كأنها مستوثق منها بالختم، وأبصارهم لا تجتلي الآيات المنصوبة لهم في الأنفس والآفاق كما تجتليها أعين المستبصرين، فتصير كأنها غُطي عليها. وحيل بينها وبين الإبصار، وسماه على الاستعارة ختماً وتغشية. أو مثل قلوبهم ومشاعرهم المؤوفة بها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها ختماً وتغطية، وقد عبر عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ. وبالاغفال في قوله تعالى:

وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا، وبالاقساء في قوله تعالى: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً وهي من حيث إن الممكنات بأسرها مستندة إلى الله تعالى واقعة بقدرته أسندت إليه ومن حيث إنها مسببة مما اقترفوه بدليل قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ وردت الآية ناعية عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم. واضطربت المعتزلة فيه فذكروا وجوهاً من التأويل:

الأول: أن القوم لما أعرضوا عن الحق وتمكن ذلك في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه.

الثاني: أن المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن. أو قلوب مقدر ختم الله عليها، ونظيره: سال به الوادي إذا هلك. وطارت به العنقاء إذا طالت غيبته.

الثالث: أن ذلك في الحقيقة فعل الشيطان أو الكافر، لكن لما كان صدوره عنه بإقداره تعالى إياه أسند إليه إسناد الفعل إلى المسبب.

الرابع: أن أعراقهم لما رسخت في الكفر واستحكمت بحيث لم يبق طريق إلى تحصيل إيمانهم سوى الإلجاء والقسر، ثم لم يقسرهم إبقاء على غرض التكليف، عبر عن تركه بالختم فإنه سد لإيمانهم. وفيه إشعار على تمادي أمرهم في الغي وتناهي انهماكهم في الضلال والبغي.

الخامس: أن يكون حكاية لما كانت الكفرة يقولون مثل: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ تهكماً واستهزاءً بهم كقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ الآية.

<<  <  ج: ص:  >  >>