نعبد لما فيه مع التقديم من تكرير المفعول، والفاء الجزائية الدالة على تضمن الكلام معنى الشرط كأنه قيل:
إن كنتم راهبين شيئاً فارهبون. والرهبة: خوف مع تحرز. والآية متضمنة للوعد والوعيد دالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد، وأن المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحداً إلا الله تعالى.
[[سورة البقرة (٢) : آية ٤١]]
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١)
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ إفراد للإيمان بالأمر به والحث عليه لأنه المقصود والعمدة للوفاء بالعهود، وتقييد المنزل بأنه مصدق لما معهم من الكتب الإلهية من حيث إنه نازل حسبما نعت فيها، أو مطابق لها في القصص والمواعيد والدعاء إلى التوحيد والأمر بالعبادة والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش، وفيما يخالفها من جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في المصالح من حيث إن كل واحدة منها حق بالإضافة إلى زمانها، مراعى فيها صلاح من خوطب بها، حتى لو نزل المتقدم في أيام المتأخر لنزل على وفقه، ولذلك
قال عليه الصلاة والسلام «لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي»
، تنبيه على أن اتباعها لا ينافي الإيمان به، بل يوجبه ولذلك عرض بقوله:
وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ بأن الواجب أن يكونوا أول من آمن به، ولأنهم كانوا أهل النظر في معجزاته والعلم بشأنه والمستفتحين به والمبشرين بزمانه. وأَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وقع خبراً عن ضمير الجمع بتقدير: أول فريق أو فوج، أو بتأويل لا يكن كل واحد منكم أول كافر به، كقولك كسانا حلة فإن قيل كيف نهوا عن التقدم في الكفر وقد سبقهم مشركوا العرب؟ قلت المراد به التعريض لا الدلالة على ما نطق به الظاهر كقولك أما أنا فلست بجاهل أو لا تكونوا أول كافر به. من أهل الكتاب، أو ممن كفر بما معه فإن من كفر بالقرآن فقد كفر بما يصدقه، أو مثل من كفر من مشركي مكة. وأَوَّلَ: أفعل لا فعل له، وقيل: أصله أو أل من وأل، فأبدلت همزته واواً تخفيفاً غير قياسي أو أأول من آل فقُلِبت همزته واواً وأدغمت.
وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا ولا تستبدلوا بالإيمان بها والاتباع لها حظوظ الدنيا، فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة بالإضافة إلى ما يفوت عنكم من حظوظ الآخرة بترك الإيمان. قيل: كان لهم رئاسة في قومهم ورسوم وهدايا منهم، فخافوا عليها لو اتبعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاختاروها عليه. وقيل: كانوا يأخذون الرشى فيحرفون الحق ويكتمونه.
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن الدنيا. ولما كانت الآية السابقة مشتملة على ما هو كالمبادي لما في الآية الثانية، فصلت بالرهبة التي هي مقدمة التقوى، ولأن الخطاب بها عم العالم والمقلد. أمرهم بالرهبة التي هي مبدأ السلوك، والخطاب بالثانية لما خص أهل العلم، أمرهم بالتقوى التي هي منتهاه.
[[سورة البقرة (٢) : آية ٤٢]]
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢)
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ عطف على ما قبله. واللبس الخلط وقد يلزمه جعل الشيء مشتبهاً بغيره، والمعنى لا تخلطوا الحق المنزل عليكم بالباطل الذي تخترعونه وتكتمونه حتى لا يميز بينهما، أو ولا تجعلوا الحق ملتبساً بسبب خلط الباطل الذي تكتبونه في خلاله، أو تذكرونه في تأويله.
وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ جزم داخل تحت حكم النهي كأنهم أمروا بالإيمان وترك الضلال، ونهوا عن الإضلال بالتلبيس على من سمع الحق والإخفاء على من لم يسمعه، أو نصب بإضمار أن على أن الواو للجمع بمعنى مع، أي لا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمانه، وبعضده أنه في مصحف ابن مسعود «وتكتمون» أي وأنتم