للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنَّ المنايا يَطَّلِعْنَ على الإِناس الآمنِينَا شاذ. وهو اسم جمع كرجال، إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع. مأخوذ من أنس لأنهم يستأنسون بأمثالهم. أو آنس لأنهم ظاهرون مبصرون، ولذلك سموا بشراً كما سمي الجن جناً لاجتنابهم. واللام فيه للجنس، ومن موصوفة إذ لا عهد فكأنه قال: ومن الناس ناسٌ يقولون. أو للعهد والمعهود: هم الذين كفروا، ومن موصولة مراد بها ابن أبي وأصحابه ونظراؤه، فإنهم من حيث إنهم صمموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم، واختصاصهم بزيادات زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس، فإن الأجناس إنما تتنوع بزيادات يختلف فيها أبعاضها فعلى هذا تكون الآية تقسيماً للقسم الثاني.

واختصاص الإيمان بالله وباليوم الآخر بالذكر، تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان وادعاء بأنهم احتازوا الإيمان من جانبيه وأحاطوا بقطريه، وإيذان بأنهم منافقون فيما يظنون أنهم مخلصون فيه، فكيف بما يقصدون به النفاق، لأن القوم كانوا يهوداً وكانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر إيماناً كلا إيمان، لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد، وإن الجنة لا يدخلها غيرهم، وأن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة وغيرها، ويرون المؤمنين أنهم آمنوا مثل إيمانهم. وبيان لتضاعف خبثهم وإفراطهم في كفرهم، لأن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم عقيدتهم لم يكن إيماناً، فكيف وقد قالوه تمويهاً على المسلمين وتهكماً بهم. وفي تكرار الباء ادعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة والاستحكام.

والقول هو التلفظ بما يفيد، ويقال بمعنى المقول، وللمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ وللرأي والمذهب مجازاً. والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا ينتهي. أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار لأنه آخر الأوقات المحدودة.

وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ إنكار ما ادعوه ونفي ما انتحلوا إثباته، وكان أصله وما آمنوا ليطابق قولهم في التصريح بشأن الفعل دون الفاعل لكنه عكس تأكيداً. أو مبالغة في التكذيب، لأن إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزمان، ولذلك أكد النفي بالباء وأطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شيء، ويحتمل أن يقيد بما قيدوا به لأنه جوابه.

والآية تدل على أن من ادعى الإيمان وخالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمناً، لأن من تفوه بالشهادتين فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمناً. والخلاف مع الكرامية في الثاني فلا ينهض حجة عليهم.

[[سورة البقرة (٢) : آية ٩]]

يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩)

يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا الخدع أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه لتنزله عما هو فيه، وعما هو بصدده من قولهم: خدع الضب. إذ توارى في جحره، وضب خادع وخدع إذا أوهم الحارش إقباله عليه، ثم خرج من باب آخر وأصله الإخفاء ومنه المخدع للخزانة، والأخدعان لعرقين خفيين في العنق، والمخادعة تكون بين اثنين. وخداعهم مع الله ليس على ظاهره لأنه لا تخفى عليه خافية، ولأنهم لم يقصدوا خديعته. بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف، أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنه خليفته كما قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ. إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ. وإما أن صورة صنيعهم مع الله تعالى من إظهار الإيمان واستبطان الكفر، وصنع الله معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار، استدراجا لهم وامتثال الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم، وإجراء حكم الإسلام عليهم مجاراة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المتخادعين.

ويحتمل أن يراد ب يُخادِعُونَ يخدعون لأنه بيان ليقول، أو استئناف بذكر ما هو الغرض منه، إلا أنه أخرج

<<  <  ج: ص:  >  >>