مراكز الفريقين فإن العدوة الدنيا كانت رخوة تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ولم يكن بها ماء، بخلاف العدوة القصوى وكذا قوله: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أي لو تواعدتم أنتم وهم القتال ثم علمتم حالكم وحالهم لاختلفتم أنتم في الميعاد هيبة منهم، ويأساً من الظفر عليهم ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صنعاً من الله تعالى خارقاً للعادة فيزدادوا إيماناً وشكراً. وَلكِنْ جمع بينكم على هذه الحال من غير ميعاد. لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا حقيقاً بأن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه.
وقوله: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ بدل منه أو متعلق بقوله مفعولاً والمعنى:
ليموت من يموت عن بينة عاينها ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة. أو ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة على استعارة الهلاك والحياة للكفر والإِسلام، والمراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة، أو من هذا حالة في علم الله وقضائه.
وقرئ «ليَهْلَكَ» بالفتح وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر ويعقوب من حيي بفك الإِدغام للحمل على المستقبل. وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ بكفر من كفر وعقابه، وإيمان من آمن وثوابه، ولعل الجمع بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا مقدر باذكر أو بدل ثان من يوم الفرقان، أو متعلق بعليم أي يعلم المصالح إذ بقللهم في عينك في رؤياك وهو أن تخبر به أصحابك فيكون تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم.
وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ لجبنتم. وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ في أمر القتال وتفرقت آراؤكم بين الثبات والفرار.
وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعلم ما سيكون فيها وما يغير أحوالها.
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا الضميران مفعولا يرى وقَلِيلًا حال من الثاني، وإنما قللهم في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لمن إلى جنبه أتراهم سبعين فقال أراهم مائة، تثبيتاً لهم وتصديقاً لرؤيا الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حتى قال أبو جهل: إن محمداً وأصحابه أكلة جزور، وقللهم في أعينهم قبل التحام القتال ليجترؤوا عليهم ولا يستعدوا لهم، ثم كثرهم حتى يرونهم مثليهم لتفجأهم الكثرة فتبهتهم وتكسر قلوبهم، وهذا من عظائم آيات تلك الوقعة فإن البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلاً والقليل كثيراً لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد، وإنما يتصور ذلك بصد الله الأبصار عن إبصار بعض دون بعض مع التساوي في الشروط.
لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا كرره لاختلاف الفعل المعلل به، أو لأن المراد بالأمر ثمة الاكتفاء على الوجه المحكي وها هنا إعزاز الإِسلام وأهله وإذلال الإشراك وحزبه. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦)