والجمع بين الوصفين، فإن الإيمان الذي هو عبارة عن التحقيق والتصديق أَسٌّ، والعمل الصالح كالبناء عليه، ولا غناءَ بأْسٍ لا بناء عليه، ولذلك قلما ذكرا منفردين. وفيه دليل على أنها خارجة عن مسمى الإيمان، إذ الأصل أن الشيء لا يعطفُ على نفسه ولا على ما هو داخل فيه.
أَنَّ لَهُمْ منصوب بنزع الخافض وإفضاء الفعل إليه، أو مجرور بإضماره مثل: الله لأفعلن. والجنة:
المرة من الجن وهو مصدر جنة إذا ستره، ومدار التركيب على الستر، سمي بها الشجر المظلل لالتفاف أغصانه للمبالغة كأنه يستر ما تحته سترة واحدة قال زهير:
كأنَّ عَيني في غَربي مقتلَة ... من النواضِحِ تَسْقي جَنَّةً سُحُقا
أي نخلاً طوالاً، ثم البستان، لما فيه من الأشجار المتكاثفة المظللة، ثم دار الثواب لما فيها من الجنان، وقيل: سميت بذلك لأنه ستر في الدنيا ما أعد فيها للبشر من أفنان النعم كما قال سبحانه وتعالى:
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وجمعها وتنكيرها لأن الجنان على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما سبع: جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعِلِّيُون، وفي كل واحدة منها مراتب ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال. واللام في لَهُمْ تدل على استحقاقهم إياها، لأجل ما ترتب عليه من الإِيمان والعمل الصالح، لا لذاته فإنه لا يكافئ النعم السابقة، فضلاً عن أن يقتضي ثواباً وجزاء فيما يستقبل بل بجعل الشارع، ومقتضى وعده تعالى لا على الإطلاق، بل بشرط أن يستمر عليه حتى يموت وهو مؤمن لقوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وقوله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وأشباه ذلك، ولعله سبحانه وتعالى لم يقيد هاهنا استغناء بها.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت أشجارها، كما تراها جارية تحت الأشجار النابتة على شواطئها. وعن مسروق أنهار الجنة تجري في غير أخدود: واللام في الْأَنْهارُ للجنس، كما في قولك لفلان: بستان في الماء الجاري، أو للعهد، والمعهود: هي الأنهار المذكورة في قوله تعالى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ الآية. والنهر بالفتح والسكون: المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر، كالنيل والفرات، والتركيب للسعة، والمراد بها ماؤها على الإضمار، أو المجاز، أو المجاري أنفسها. وإسناد الجري إليها مجاز كما في قوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها الآية.
كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا صفة ثانية لجنات، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة. كأنه لما قيل: إن لهم جنات، وقع في خلد السامع أثمارها مثل ثمار الدنيا، أو أجناس أخر فأزيح بذلك، وكُلَّما نصب على الظرف، ورِزْقاً مفعول به، ومن الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقع الحال، وأصل الكلام ومعناه: كل حين رزقوا مرزوقاً مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة، قيد الرزق بكونه مبتدأ من الجنات، وابتداؤه منها بابتدائه من ثمرة فصاحب الحال الأولى رزقاً وصاحب الحال الثانية ضميره المستكن في الحال، ويحتمل أن يكون من ثمره، بياناً تقدم كما في قولك: رأيت منك أسداً، وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا كقولك مشيراً إلى نهر جار: هذا الماء لا ينقطع، فإنك لا تعني به العين المشاهدة منه، بل النوع المعلوم المستمر بتعاقب جريانه وإن كانت الإشارة إلى عينه، فالمعنى هذا مثل رزقنا ولكن لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته كقولك: أبو يوسف أبو حنيفة.
مِنْ قَبْلُ أي: من قبل هذا في الدنيا، جعل ثمر الجنة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس إليه أول ما يرى، فإن الطباع مائلة إلى المألوف متنفرة عن غيره، ويتبين لها مزيته وكنه النعمة فيه، إذ لو كان جنساً لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك، أو في الجنة لأن طعامها متشابه في الصورة، كما حكى ابن كثير عن الحسن رضي الله عنهما: (أن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول