[النحل: ١٢٦] ثم صارت هذه الآية حكماً في جميع الجنايات. إن من جنى على إنسان أو في ماله، فله أن يجازيه بمثل ذلك بظاهر هذه الآية: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ. ثم قال وَاتَّقُوا اللَّهَ عن الاعتداء قبل أن يعتدوا عليكم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، يعني يعين من اتقى الاعتداء.
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أي في طاعة الله. قال ابن عباس: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد، قام إليه ناس من الأعراب حاضري المدينة فقالوا: بماذا نجهز؟ فو الله ما لنا زاد ولا يطعمنا أحد. فنزل قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يعني تصدقوا يا أهل الميسرة فِى سَبِيلِ الله أي في طاعة الله. وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا وهكذا قال مقاتل. ومعنى قول ابن عباس ولا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا، أي لا تمسكوا عن النفقة والعون للضعفاء، فإنهم إذا تخلفوا عنكم غلب عليكم العدو فتهلكوا. ومعنى آخر: ولا تمسكوا، فيرث منكم غيركم فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم. معنى آخر: ولا تمسكوا، فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة.
ويقال: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، يعني لا تنفقوا من حرام، فيرد عليكم فتهلكوا. وقال الزجاج: التهلكة: معناه الهلاك. يقال: هلك يهلك هلاكاً وتهلكة. معناه إن لم تنفقوا عصيتم الله فهلكتم. وروي عن البراء بن عازب، أن رجلاً سأله عن التهلكة فقال: أهو الرجل إذا التقى الجمعان، فحمل فيقاتل حتى يقتل؟ قال: لا ولكن الرجل يذنب ثم لا يتوب.
وقال قتادة قيل لأبي هريرة: ألم تر سعد بن هشام لما التقى الصفان حمل فقاتل حتى قتل، ألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال أبو هريرة: كلا والله ولكنه تأويل آية من كتاب الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة: ٢٠٧] وقال أبو عبيدة السلماني: التهلكة أن يذنب الرجل فيقنط من رحمة الله فيهلك.
وروي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه وكثرنا قلنا فيما بيننا: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أقمنا فيها وأصلحنا منها ما ضاع فأنزل الله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فكانت التهلكة في الإقامة التي أردنا أن نقيم في أموالنا ونصلحها، فأمرنا بالغزو. ثم قال تعالى: وَأَحْسِنُوا، أي أحسنوا النفقة من الصدقة. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ في النفقة ويقال: وأحسنوا في النفقة، أي أخلصوا النية في النفقة. ويقال: أحسنوا الظن بالله تعالى فيما أنفقتم، إنه يخلف عليكم في الدنيا ويثيبكم في الآخرة.