للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ يقول: لا تمسك يدك في النفقة من البخل، بمنزلة المغلولة يده إلى عنقه وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ في الإسراف فتعطي جميع ما عندك، فيجيء الآخرون ويسألونك فلا تجد ما تعطيهم، وهذا قول ابن عباس. وقال قتادة: لا تمسكها عن طاعة الله وَعَنِ حقه، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ يقول: لا تنفقها في المعصية وفيما لا يصلح. وقال مقاتل في قوله: لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ، في العطية فلا يبقى عندك شيء، وإذا سئلت لم تجد ما تعطيهم. وقال بعض الحكماء: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأمته كالوالد، ولا ينبغي للوالد أن يعطي جميع ماله لبعض ولده ويترك الآخرين، فنهاه الله تعالى أن يعطي جميع ماله لمسكين واحد، وأمره أن يقسم بالسوية كي لا ييأسوا منه» .

ثم قال تعالى: فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً يعني: لو أعطيت جميع مالك فتبقى مَلُوماً يلومك الناس وتلوم نفسك مَحْسُوراً منقطعاً عن المال لا مال لك، والمحسور في اللغة:

المنقطع. وروي في الخبر: «أن امرأة بعثت ابنها إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت له: قل له إن أمي تستكسيك درعاً، فإن قال لك حتى يأتينا شيء، فقل له: إنها إِذَنْ تستكسيك قميصك. فأتاه فقال له: إن أمي تستكسيك درعاً فقال له: «حتى يأتينا شيء» . فقال: إنها تستكسيك قميصك، قال: فنزع قميصه ودفعه إليه، ولم يبق له قميص يخرج به إلى الصلاة» «١» ، فنزلت هذه الآية وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً. أي: تبقى عرياناً لا تقدر أن تخرج إلى الصلاة بغير قميص.

قال الفقيه: إذا أردت أن تعرف أن البخل قبيح، فانظر إلى هذه الآية، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أعطى قميصه حتى عجز عن الخروج إلى الصلاة عاتبه الله تعالى على ذلك، فبدأ بالنهي عن الإمساك فقال وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً فنهاه أولاً عن البخل، ثم نهاه عن دفع الكل وهو التبذير.

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]

إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣)

ثم قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أي: يوسع الرزق على من يشاء، من كان صلاحه في ذلك وَيَقْدِرُ أي: يضيق على من يشاء في الرزق: وقال الحسن: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ لمن يشاء إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً من البسط والتقتير، يعلم صلاح كل واحد من خلقه.


(١) عزاه السيوطي: ٥/ ٢٧٦ إلى ابن أبي حاتم عن المنهال بن عمر وابن جرير عن ابن مسعود.

<<  <  ج: ص:  >  >>