أخفاه وأسره من قومه، ويقال: دعا ربه دعاء سراً، لأنه علم أن دعاء السر أنفع وأسرع إجابة، ويقال: دعا ربه نداءً خفياً يعني: خالصاً. قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي، أي ضعف عظمي، وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً يعني: أخذ في الرأس شيباً وبياضاً. شَيْباً صار نصباً بالتمييز، والمعنى: اشتعل الرأس من الشيب، يقال للشيب إذا كثر جداً: قد اشتعل رأس فلان بالشيب.
ثم قال: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، يعني: لم تكن تخيب دعائي عندك إذا دعوتك.
ثمّ قال: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي، يعني: خشيت، ويقال: يعني: الورثة، ويقال: بنو العم، ويقال: العصبة من ورائي، يعني: من بعد موتي، خاف أن يَرِثَهُ غير الولد.
وروي عن قتادة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:«يَرْحَمُ الله تَعَالَى زَكَرِيَّا وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَةٍ»«١» .
وروي عن سعيد بن العاص أنه قال: أملى علي عثمان رضي الله عنه وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ بنصب الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء، ويقال: يعني: ذهبت الموالي. وقال أبو عبيدة: لولا خلاف الناس لاتبعنا عثمان فيها.
ثم قال: وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً، يعني: عقيماً لم تلد فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يعني: ولداً. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ. وقال عكرمة: يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة، وهكذا قال الضحاك. وقال بعضهم: يَرِثُنِي يعني: علمي وسنتي، لأن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون مالاً. وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:«إنَّا مَعَاشِرَ الأنْبِيَاءِ لا نُوَرِّثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» . وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:«إنَّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دَرَاهِمَ وَلا دَنَانِيرَ، وَإنَّمَا وَرَّثُوا هذا العِلْمَ» ويقال: لأنه رأى من الفتن وغلبة أهل الكفر، فيخاف على إفساد مواليه إن لم يكن أحد يقوم مقامه ويخولهم بالموعظة. قرأ أبو عمرو والكسائي: يَرِثُنِي وَيَرِثُ بجزم كلا الثاءين على معنى جواب الأمر، أي أنك إذا وهبت لي ولياً يرثني، وقرأ الباقون: يَرِثُنِي وَيَرِثُ بالضم. وقال أبو عبيدة: وهذا أحب إلي. قال: معناه هب لي الذي هذه حاله وصفته، لأن الأولياء قد يكون منهم الوراثة وغيرهم، فيقول: هب لي الذي يكون ورائي وارث النبوة. ثم قال: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا، يعني: صالحاً زكياً.