ثم قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. قال بعض المفسرين: إن الله لم يدع شيئاً من الكرامة والبر، إلا وقد أعطى هذه الأمة. ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب لهم الشرائع دفعة واحدة، ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة فكذلك في تحريم الخمر، كانوا مولعين على شربها، فنزلت هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، أي عن شرب الخمر والميسر هو القمار. قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ في تجارتهم. وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما. فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها. ثم نزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: ٤٣] ، فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يمنعنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة، حتى نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: ٩٠] الآية. فصارت حراماً عليهم حتى كان بعضهم يقول: ما حرم علينا شيء أشد من الخمر. وقيل: إثم كبير في أخذها ومنافع في تركها.
وروي أن الأعشى توجه إلى المدينة ليسلم، فلقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له:
أين تذهب؟ فأخبرهم أنه يريد محمدا صلى الله عليه وسلم. فقالوا: لا تصل إليه فإنه يأمرك بالصلاة. فقال: إن خدمة الرب واجبة. فقالوا له: إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء. فقال: إن اصطناع المعروف واجب. فقيل له إنه ينهى عن الزنى. فقال: إن الزنى فحش قبيح في العقل وقد صرت شيخاً، فلا أحتاج إليه. فقيل له: إنه ينهى عن شرب الخمر. قال: أما هذا فإني لا أصبر عنه فرجع.
وقال: أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه، فلم يبلغ إلى منزله، حتى سقط عن البعير فانكسر عنقه فمات. وقال بعضهم: في هذه الآية ما يدل على تحريمه، لأنه سماها إثماً، وقد حرم الإثم في آية أُخرى وهي قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ [الأعراف: ٣٣] . وقال بعضهم: أراد بالإثم، الخمر بدليل قول الشاعر:
وروي عن جعفر الطيار أنه كان لا يشرب الخمر في الجاهلية، وكان يقول: الناس يطلبون زيادة العقل، فأنا لا أنقص عقلي. وأما الميسر، فكانوا يشترون جزوراً ويضربون سهامهم، فمن خرج سهمه أولاً، يأخذ نصيبه من اللحم ولا يكون عليه من الثمن شيء، ومن بقي سهمه آخراً، فكان عليه ثمن الجزور كله وليس له من اللحم شيئاً. وقال عطاء ومجاهد: