وغَلا في مخالفتهم كثيرٌ من متكلّمي أهل الإثبات، حتى جوَّزوا أن لا تكون في الأحكام الشرعية الواقعة مصلحةٌ للمكلَّفين (١) البتَّةَ، وأن لا معنى للحكم إلّا مجردُ القول، وأنّ الفعل لم يكتسب بالحكم إلّا صفةً إضافية، وأن شيئًا من الأفعال ليس على صفةٍ تقتضي الحكم، وأن العلل الشرعية ليست إلّا محضَ علاماتٍ، وحتى أحالَ بعضُهم التعليلَ بالمصالح والمفاسد.
واقتصدَ الفقهاءُ والحكماءُ من أهل البصر بالأصول والفتوى والحديث، فعَلِموا أن الله لا يَجب عليه شيءٌ كما يجب على خلقِه، بل هو سبحانه كتبَ على نفسه الرحمة، وحرَّم على نفسِه الظلمَ، فهو أرحمُ بخلقِه من الوالدة بولدها. فأمرَ العبادَ بما أمرَهم لا لحاجته، بل لما فيه من صلاحهم، ونهاهم عما نهاهم لا بُخلًا به، بل لما فيه من مفاسدهم، تفضلًا منه وإحسانًا، وإن كان له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
والحكم اسمٌ يُقالَ على خطابِ الله وكلامِه المنزّل، وهو الإيجاب كقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}[البقرة: ١٨٣]، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}[آل عمران: ٩٧]، أو التحريم كقوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة: ٣]، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء: ٢٣]. ويُقال على الوجوب والحرمة القائمين بالأفعال، ويُقال على التعليق الذي بين الخطاب وبين الأفعال، فإذا عُنِي به الإيجابُ أو التعليقُ كان صفةً إضافيةً للفعل، وإن عُنِي به الوجوبُ