الثالثة: أن تنشأ من الفعل المأمور به من حيث هو مأمورٌ به لما فيه من الطاعة والانقياد والعبادة لله، حتى لو فعل بدون الأمر كان عبثًا. ومن ذلك أكثر أفعال الحج، والتيمم، وترك الشرب من النهر، ونحو ذلك. وهذا الذي يُسمَّى تعبدًا في الغالب.
[ق ٥٧] ثم اعلم أن أكثر الأفعال تجتمع فيها الجهات الثلاث، كالصلاة والصوم وبرّ الوالدين وصلة الأرحام وصِدْق الحديث وأداء الأمانة والكفّ عن الفواحش والسيئات، فإن الله لمّا أمر بالزكاة والصوم فسمعَ ذلك المؤمنون فآمنوا، وقالوا: سمعنا وأطعنا، واعتقدوا وجوبَ ذلك= حصلَتْ لهم مصلحةٌ عظيمةٌ من الخضوع لله، ثم في ضمن الزكاة والصوم من الفوائد والمصالح ما لا يكاد يُحصيه إلّا الله، حتى لو صام وتصدَّق رجلٌ لم يُؤمَر بذلك حصلَ له بعضُ تلك الفوائد.
فإن قيل: كيف يجوز تعليلُ أحكام الله بالمصالح؟ والله سبحانه يفعل لا لغرضٍ ولا لداعٍ ولا باعثٍ، لأن الأغراض عليه محالٌ، لتعاليه عن لُحوقِ المنافع والمضارّ، ولأن من فعل لغرضٍ كان ناقصًا قبلَ وجودِه مستكملًا بوجودِه. ثم المصالح التي في الأفعال حادثةٌ وحكمُ الله قديم، والعلّة يجب أن تتقدَّم المعلول.
قيل: ليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك، لكن نقول: هو سبحانَه يعلم ما في الفعل من المصلحة، فيحكم بوجوبه لعلمه بذلك، فعلمُه بصفة الفعل هو الموجب لذلك الحكم، لأنه عليم حكيم. فالعلة والحكم بهذا التفسير قديمان، وكذلك إرادتُه ومشيئتُه قديمةٌ، فهو يَعلم ما في المصنوعات من الحكمة فيريد ما علمه، وليس هذا الاقتضاء والإيجاب من جنس إيجاب