للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويُحكِّمه على عقله. وهذا مقامٌ فيه للرجال مجالٌ رحب.

إذا تقرَّر هذا فاعلم أن كلامَ أكثر الجدليين إنما يَقعُ في القسم الثاني والثالث، لأن الوصف الذي قد عُلِم إضافةُ الحكم إليه أو الحكمة التي قد عُلِمَ أن الحكم شُرِعَ لأجلها بالنص والإجماع لا يحتاج إلى مناسبته باستنباط المناسبة، والمناسبة التي لم يشهد لها أصل معيَّن فلا يكادون يُدخِلونها في كلامهم، إمّا لاعتقادهم عَدَمَ الاستدلال بها، أو لانتشار الأمر فيها على القياسيين، فإنّ النظر فيها أسهل من المناظرة فيها.

أما القسم الأول فهو أقربُ إلى الصحة، وقد اشتهر الكلام فيه، وأكثر الأصوليين يقولون به في الجملة. ويُعبِّر عنه الخراسانيون أن مباشرة الحكم طريقَ (١) الفعل الصالح لحصولِ المطلوب تُوجِب إضافةَ تلك المباشرة إلى ذلك المطلوب. مثل مَن علمنا أن جائعٌ أو عارٍ (٢)، ورأيناه يَسعَى في تحصيل ما يأكل ويلبس، فإنا نقول: إنما أخذَ هذا الطعامَ ليأكلَه، وهذا الثوبَ ليلبسَه، وإن جاز أن يكون أخذه ليُؤثِرَ غيرَه. وكذلك من رأيناه أعطَى فقيرًا أو أكرمَ عالمًا أو زارَ قريبًا نقول: إنه إنما فعلَ ذلك لأجل الفقر والعلم والقرابة. وكذلك من رأيناه يؤدِّي الفرائضَ ويَجتنبُ المحارمَ نقول: إنه إنما فعل ذلك لطلب الثواب والنجاةِ من العقاب. ومثاله في الأحكام الشرعية أنَّ إعطاءَ المحاويج وسدَّ المَفَاقِر لما كان أمرًا مطلوبًا في نظر الشرع، وهو حكمةٌ ومصلحةٌ، قد علمنا ذلك بنصوصٍ كثيرة، وكذلك البراءة من حبِّ المال وشكرُ اللهِ عليه، ثم رأيناه قد أوجبَ الزكاةَ المفضي من وجوهٍ إلى إعطاءِ المحاويج والبراءةِ من الشُّحِّ


(١) الأصل: «الطريق» ولعل الصواب ما أثبت، انظر (ص ١٠٤).
(٢) في الأصل: «عارى».