من الحقوق التي ينبغي للعالم أن يراعيها في علمه تجاه الناس وتجاه الخلق: أن يختار لهم أفضل ما يجده، وأحسن ما يجده، لكي يقدمه من العلوم النافعة، فكما أنه واجبٌ عليه أن يتقن العلوم، كذلك يختار أهمها وأولاها وأحقها، وهو: توحيد الله سبحانه وتعالى، وبيان ما لله من حقوقٍ في إخلاص العمل لوجهه، وصدق المعاملة معه سبحانه وتعالى، فيأخذ بمجامع القلوب لله بإخلاص العبودية لله سبحانه وتعالى، فأفضل العلوم وأحبها إليه سبحانه وتعالى هو التوحيد، قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل:(إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله).
كذلك عليه حقٌ عظيم وهو: أن يبين للناس الأحكام، والمسائل العملية المتعلقة بالعبادات والمعاملات، فيبين هدي رسول صلى الله عليه وسلم في عبادته، في طهوره وصلاته، وكيفية أدائه للحقوق التي أوجبها الله عز وجل وفرضها، فيصف للناس صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنهم ينظرون إلى نبي الأمة صلى الله عليه وسلم في خشوعه وتذلله وخضوعه، وموقفه بين يدي ربه، كيف كان يركع، ويسجد، ويقف مع كل صغيرة وكبيرة من هديه صلوات الله وسلامه عليه، إذا فعل ذلك نصح للأمة، وبين لها دينها وأقامها على الهدى من سبيلها، فأصبحت على خيرٍ ورحمة وفضلٍ كثير.
كذلك على العالم أن ينصح للأمة فيجمع القلوب على دين الله جل جلاله، فالنصيحة واجبة على العلماء فعليهم أن يجمعوا الناس ولا يفرقوهم، وأن يحببوا بعضهم إلى بعض ويؤلفوا بينهم ولا يشتتوهم، فإن الله جمعنا بالإسلام، وألف بين أرواحنا بالقرآن، الله ربنا والإسلام ديننا، وخير خلق الله صلى الله عليه وسلم نبينا ورسولنا فلماذا نختلف، ونفترق فيدعوهم إلى الأصل الأصيل من كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبين للناس هذا الأمر الذي عليه صلاح العباد، من اجتماع الكلمة وتآلف القلوب، فيكون حريصاً على ذلك أيما حرص؛ لأن الله امتن على نبيه صلى الله عليه وسلم باجتماع الكلمة، وتآلف الأرواح، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم، مبيناً حقيقة الإسلام والإيمان:(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد) لا يمكن للمسلمين أن يكونوا كمثل الجسد الواحد، إلا إذا كان العلماء والدعاة والهداة إلى الله على قلب رجلٍ واحد يقولون بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعملون بذلك ويحتكمون إليه، هذا من أعظم الواجبات وآكد الحقوق والأمانات على العلماء؛ لأن الأمة إذا تشتت وتفرق جمعها؛ فإن القلوب تمتلئ بالضغائن فيتشتت الخلق ويصبح علم الإنسان في بعض الأحيان وبالاً عليه -نسأل الله السلامة والعافية- ينصح المسلم لإخوانه المسلمين ويجمع كلمتهم على الخير والبر.
انظر إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه صاحب السوادين والنعلين كان رضي الله عنه وأرضاه، الصحابي الوحيد الذي يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من دون استئذان، يقول له:(أذنت لك أن تسمع سوادي حتى أنهاك وأن ترفع الحجاب) فكان يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم في ليله ونهاره رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه، هذا الصحابي الجليل مع علمه وفضله يقول فيه حذيفة:[ولقد علم المحفوظون من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم، أن ابن أم عبد أعلمهم وأقربهم هدياً وسمتاً ودلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم] كان أعلم الصحابة بالسنة وأعلمهم بهديه، ومع ذلك لما صلى عثمان رضي الله تعالى عنه بالمسلمين وذلك في حجته الأخيرة وأتم الصلاة، أتم الصلاة عبد الله بن مسعود وراءه فقيل له في ذلك، فقال رضي الله عنه:[الخلاف شر] فآثر أن تجتمع الكلمة على عثمان رضي الله عنه وأرضاه وهذا من علمه وفقهه.
وكذلك عمر بن الخطاب يراجع أبا بكر رضي الله عن الجميع وأرضاهم، فهو يراجعه في المسألة ويقول:(كيف تقاتل قوماً يشهدون أن لا إله إلا الله وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله).
فقال له أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه:[والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة وإنها لقرينتها في كتاب الله].
قال عمر رضي الله عنه وأرضاه:[فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر لذلك فعلمت أنه الحق] اجتماع قلوب العلماء وائتلافها على الكتاب والسنة وعلى الهدي الصالح لسلف الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم، ورحمهم الله برحمته الواسعة، أمرٌ مطلوب ومحببٌ ومرغوب، لن تجد الأمة في عز مكانتها ولا قوة شأنها إلا إذا اعتصمت بكتاب ربها وأتلفت أرواحها دفاعاً عن دينها، وأما الشتات والفرقة وغير ذلك مما لا تحمد عاقبته فإنه ضياعٌ للكلمة، وذهابٌ للهيبة، وسببٌ للفشل، قال الله سبحانه وتعالى:{وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال:٤٦].