[مراتب الكياسة وكيف تكتسب]
السؤال
الناس في الكياسة مراتب، فمن الناس من دان نفسه، ومنهم من أتبع نفسه هواها، ومنهم من كان بين هذا وذاك، فما هي الوسائل التي يتبعها الإنسان ليملك زمام نفسه ويسخرها في طاعة الله؟
الجواب
أما بلوغ درجة الكمال في الكياسة فهذه منحة ربانية، وعطية إلهية يمنحها سبحانه وتعالى لقلوب تعرفه، وجوارح تتعبده، الإنابة إلى الله عز وجل إلى درجة يكون الإنسان فيها كيساً يحفظ نفسه عن محارم الله، ويشحذ همته لطاعة الله عز وجل، هذه مرتبة وأي مرتبة، مرتبة أهل الفلاح، والصلاح، والفوز والنجاح، فإن أنبياء الله تمنوا وسألوا الله أن يجعلهم من أهلها، حتى قال نبي الله سليمان الذي له المكانة عند الله، يقول الله له تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:٣٩] {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:٢٥] هذا النبي الكريم يضرع إلى الله يقول: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالِحِينَ} [النمل:١٩].
إن مرتبة الكياسة توجب صلاح القول والعمل، وهي مرتبة عظيمة، ويستطيع الإنسان بلوغها إذا شاء الله له ذلك، فيدعو الله عز وجل أن يجعله ممن حفظ قوله وعمله عن أن يصيب محارم الله، الإنسان الكيس هو: الذي يحسن القول والعمل، والمعاملة لله تبارك وتعالى، وتجد حاله حال حزم وانتقاص موجب للكمال، حال حزم بمعنى: أنه لا يعطي نفسه هواها، ولا يتمنى على الله الأماني، ولذلك قالوا من الحكمة: الكيس -ويروى أيضاً أثر- من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت.
دان نفسه أي: أهانها وأذلها في الظاهر لطاعة الله عز وجل، ولكن في الباطن أكرمها، من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز أي: الذي فقد الكياسة، من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، من أتبع نفسه هواه: مسترسل في غيه وهواه، وفجوره وبعده عن تقواه.
فإذاً: الكياسة تستوجب من الإنسان الحزم، ومن أمثلتها: العبد مثلاً يقول: أريد أن أصوم اليوم، فيأتيه الشيطان ويقول له: لا.
إلى غد، الحياة طويلة وأنت شاب.
فيقول: لا.
الآن أصوم.
إذاً هو أخذ بالحزم، وعمل لما بعد الموت، لكن إذا كان عاجزاً محروماً من الكياسة يقول: نعم.
الحياة طويلة، إذاً إلى غد.
كذلك عندما يريد أن ينفق من المال، مر على مسكين أو محروم أو بائس أو أرملة أو يتيم أو جاءه إنسان {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:٣٨].
ويأتيه إنسان يقول له: عندنا قضية تحتاج إلى مساعدة، تحتاج إلى سخاء وجود، فيأتيه الشيطان ويأتيه الهوى، يقول له: يا أخي! أنت الآن ما تزوجت، أنت ما فعلت كذا ولا كذا، ابنِ مستقبلك -كما يقولون- فيأتيه هوى وحظوظ النفس، لكن إذا كان كيساً حازماً ماذا يقول؟ يقول: أليس الكون كون الله، والمال مال الله، والفقر والغنى من الله؟ فما الذي تغنيه عني أموالي لو شاء الله أن أكون فقيراً؟ وما الذي يضرني لو أني أنفقت في طاعة الله عز وجل؟ وكما قال الشاعر: أروني بخيلاً طال عمراً ببخله وهاتوا جواداً مات من كثرة البذل فإذا تحركت في النفس معالم السخاء والجود والعطاء في محبة رب الأرض والسماء؛ جاء الحازم لكي يقوي تلك الهمة، ويشحذها على طاعة الله، ولكن جاء العاجز فقال: كيف أضيع مستقبلي وأبني مستقبل غيري؟ كيف أهدم حياتي وأصلح حياة غيري؟ فيعيش مع أشجان يعمرها بسوء الظن بالله عز وجل.
الكيس عبد صالح يعرف كيف يعامل الله عز وجل، مثلاً جاءه حديث نفس بالطاعة، الآن أنت جالس فجاء حديث النفس بالطاعة، لو قمت وتوضأت وصليت ركعتين، فإن كان كيساً قال: ركعتان كم فيهما من حسنات؟ فقام مباشرة وتوضأ وصلى ركعتين، وناجى ربه وناداه، وسأله من خيري الدنيا والآخرة، هذه كياسة حرص على الطاعة شحذ همة، ولذلك بعض الأخيار إذا جئت تدعوه إلى أي عمل خير، ما ينتظر، كل شيء يحتمل التأخير إلا طاعة الله.
من الكياسة: حسن المعاملة لله عز وجل.
والعكس بالعكس -والعياذ بالله- إنسان خامل، نائم، يريد أن يصل إلى الدرجات العلى وهو في شهوات وملهيات، وتسويف في طاعة رب البريات، شتان ما بينهما، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:٢٨] كلا والله، الله عدل لا يمكن أن يساوي بين الفريقين، وشتان ما بين الطائفتين.
فالمقصود: لا بد للإنسان أن يشحذ همته إلى الكياسة، وأن يحاول أن يستجمع من نفسه ما يدعوه إلى كسب الوقت في طاعة الله ومرضاة الله عز وجل، جاءك حديث نفسك، فقال لك: هناك محاضرة لشيخ داعية.
فيأتي الشيطان يقول: ما هو عنوان المحاضرة؟ الصبر، سمعنا عن الصبر كثيراً.
عاجز، خاذل، لكن بعض الأخيار لو سمع عن الصبر مائة مرة، كلما سمع كأنه أول مرة يسمع، يقول: يا الله، محاضرة كي نذهب.
يريد أن يشغل وقته في طاعة الله.
عندنا مجلس فيه إخوان يقرءون كتاباً مفيداً يتذاكرون العمل، يقول: بسم الله، يا الله.
حازم، ما يسوف ولا يضيع في طاعة الله -جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل- والله إنها لحياة القلوب، ونسأل الله أن يحيي قلوبنا وقلوبكم بذكره وشكره، والله تعالى أعلم.