[العفو والصفح عن المسيء من موجبات رحمة الله]
الوصية الأخيرة: أن نشتري مرضاة الله جل جلاله بخصلة من خصال أهل الإيمان: وهذه الخصلة ما حافظ عليها أخٌ مع أخيه إلا عامله الله بها في الدنيا والآخرة! أتدرون ما هي؟! إنها العفو عن المظالم، العفو عن المسيء، العفو عمَّن أساء، فإنها موجبةٌ لرحمةَ الله جل جلاله، يوم أن تقف أمام أخيك الذي يزِلُّ عليك بلسانه، أو يزِلُّ عليك بجوارحه وأركانه، فيأتيك ابن عمك فيقول: يا أخي! خذ بحقك، إنك ذليلٌ إن عفوتَ، وإنك حقيرٌ إن صفحتَ، وإنك كذا، وإنك كذا، فيخذِّلك عن طاعة الله جل جلاله؛ لكن يأبى إيمانُك، ويأبى يقينُك وعلمُك بلقاء الله ربِّك إلا العفوَ والصفحَ لوجه الله جل جلاله.
دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فطأطأت له رءوسُ الكفار، وذلَّت له أعناقُ الأشرار، وأصبح يومَها المُلْكُ لله الواحد القهار! وقف صلى الله عليه وسلم يوم الثاني من الفتح وقريش تحته كلُّها، وجاء وقتُ الثأر، وجاء أخذ الحق والقصاص يوم سُفِكَت دماء أقاربه، يوم قُطِّعت أشلاء أصحابه وأحبابه! وقف صلى الله عليه وسلم على رءوسهم والماضي ماثل بين يديه بما فيه من الفجائع، وبما فيه من الأمور التي تُقِضُّ المضاجع! فوقف صلى الله عليه وسلم ساعة الثأر، وأخذ بعضادَتَي باب الكعبة وقال: (يا معشر قريش! ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟! -ما الذي يخطر ببالكم الآن بعد أن أعزني الله وأذلكم، ورفعني ووضعكم، وجبرني وكسركم؟! - فقالوا: أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍِ، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء).
الله أكبر ما أوسع صدور المؤمنين في الحلم والرحمة! الله أكبر ما أوسع قلب المؤمن! لأنه رجل كامل، والرجل الكامل: هو الذي يعفو ويصفح، ولذلك قال الله عن أهل العفو: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:٣٥].
فعندما يَزِلُّ عليك أخوك في الإسلام بكلمة، فيأتيك الشيطان، وتأتيك حمية الجاهلية أن ترد عليه بعثراتها، وأن تُخْرِس لسانه بأسوأ منها؛ عند ذلك اذكُر الله جل جلاله، وتذكَّر أن هذا اللسان ما يلفظ بكلمة إلا وهي مخطوطة في الديوان، وأنك ستَلْقَى الله جل وعلا؛ لتنتهي بك إما إلى جنانٍ أو إلى نيران، وقل: أستغفر الله لي ولك.
جاء رجل إلى الحسن فقال: [إن فلاناً يشتمك، قال: والله لَأُغِيْظَنَّ مَن أَمَرَه بذلك: اللهم اغفر لي ولأخي].
وجاء آخر إلى الحسن فقال له: [فلانٌ يقول فيك كذا وكذا، فقال: أما وَجَدَ الشيطان رسولاً غيرك؟!].
أي: أما وجد الشيطان رسولاً ينقُل الأحاديث على لسانه غيرك؟! فلا بد أن يحاول الإنسان أن يكون سمحاً، وأن يكون حليماً.
فإن مَن رَحِمَ الناسَ وعفا عنهم عفا الله عنه، وأنت أحوجُ ما تكون إلى عفوه! ولَئن رحمتَ الناسَ لَيَرْحَمَنَّك الله، وأنت أفقر ما تكون إلى رحمته! فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الراحمون يرحمهم الله).
وقال: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
وبرحمة الإنسان وعفوه عمَّن أساء تَعْظُمُ الخيرات، وتَنْزِل من السماء البركات، ويكون للناس خيرُ الدين والدنيا في الحياة وبعد الممات.
فليحاول الإنسان أن يشتري رحمة الله عز وجل بالعفو والصفح، إياك أن تأخذك حمية النفس للانتقام! فإنك إن عفوت عن إنسان لوجه الله عفا الله عنك في عرصات يوم القيامة.
ولذلك ورد في الحديث أنه: (إذا جُمِع الناس في عرصات يوم القيامة نادى منادٍ على رءوس الأشهاد: من كان أجره على الله فليَقُم، فتقول الملائكة: ومن هذا الذي أجره على الله؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فلا يقوم إلا مَن عفا عن ذُلٍّ).
فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا وإياكم منهم.
ألا وإن من أفضل العفو وأطيبه وأكرمه: أن تعفو عن المديون المعسر إذا جاء يريد سداد دينه، فإذا نظرتَ إلى أخيك المكروب المعسر، وتجاوزت عنه لوجه الله، تجاوز الله عنك في عرصات يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجل يداين الناس، وكان يقول لغلمانه: إذا وجدتم رجلاً معسراً فتجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فلما لقي الله قال الله: يا ملائكتي، إن عبدي تجاوز عن عبادي، ونحن أحق بالعفو عنه، تجاوزوا عن عبدي).
فمن تجاوز عن المعسر والمديون والمكروب كان أحرى أن يرحمه الله، وهو المكيال الأوفى الذي يوفي اللهُ لصاحبه الأجر بغير حساب.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن ترزقنا إيماناً يرضيك عنا.
اللهم انزع من قلوبنا الشحناء، والبغضاء لعبادك المؤمنين.
اللهم هب لنا قلوباً تقيةً نقية.
اللهم سلِّمنا وسلِّم منا، وتب علينا وتجاوز عنا.
اللهم آمِنَّا يوم الوعيد، اللهم أمِّنْ في يوم الوعيد رَوْعَنا، اللهم استُر فيه عوراتنا، اللهم أمِّنْ فيه روعاتنا، اللهم اغفر لنا فيه، ولآبائنا، وأمهاتنا، ومن حضر مجلسنا، وغاب عنا.
لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:١٨٠ - ١٨٢].
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه، وآله.