أما الأمر الثالث وهي المرحلة التي يدور عليها الحديث: قضية الدعوة إلى الله.
فبعد أن تعلم وتعمل تنطلق مشعل نور ورحمة وهداية في مجتمعك، تنطلق هادياً إلى الله وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً بين قومك وأهلك، حتى تتشرف فتكون وارثاً للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى تتشرف ويثقل ميزانك بحسنات أقوام هديتهم إلى الله، حتى تتشرف فتقيم حجة الله على عباد الله، فأعلى مقام للعبد مقام الدعوة إلى الله، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المقام الشريف والمنصب المنيف بقوله سبحانه وتعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ}[فصلت:٣٣] و (مَن) هنا بمعنى: لا، أي: ولا أحسن قولاً ممن دعا إلى الله.
فما أطيبها من كلمات عند الله حينما تذكر بها عباد الله! وما أسعدها من لحظات حينما تجلس بين قوم تهدي قلوبهم إلى الله! فليحتسب كل واحد منا أن يقوم بهذا الواجب، وهذا الواجب لا يقتصر على قوم معينين، بل واجب الدعوة إلى الله أمانة في عنق كل واحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، الدعوة إلى الله واجب على كل أحد، حتى إن الإنسان العامي من المسلمين تجب عليه الدعوة بمقدار ما علم، فلو مر على إنسان يعبد غير الله لا يقول أنا عامي فإن الدعوة إلى توحيد الله ونبذ ما يعبد من دون الله واضحة لا تحتاج إلى كثرة علم، وهناك أمور خاصة كمعرفة الأحكام والشرائع فالدعوة إليها خاصة بأهل العلم، ولكن هناك دعوة عامة وهي الدعوة إلى أصل الدين، وتوحيد رب العالمين، وإقامة حجة الله على خلقه أجمعين، وهي التي وردت فيها الآيات العامة، ثم يليها الدعوة إلى ترك المحرمات والفواحش والمنكرات.
فما حَيَّتْ الأمة إلا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا ماتت القلوب ولا هانت الأمة إلا حينما أضاعت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولن تجد الأمة في زمان سما مكانها وعز بين العباد شأنها إلا وجدتها أحرص ما تكون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو نظرت إلى زمان من عصور الإسلام الزاهرة وأزمنته الغابرة التي كانت فيها في عز ومجد ورفعة، لو قرأت التراجم وجدت تلك الأمة التي كانت تعتصر قلوبها غيرة على الدين، وجدت الصغير يغار على الدين قبل الكبير، ووجدت القلوب تتمعر لله، ووجدت الألسن تهدي إلى الله وتدعو إلى الله، فلما كانت الأمة بهذا الحال صلحت أحوالها وعظم عند الله مكانها وعز بين الخلق شأنها.
فالمقصود أن الإنسان ينبغي له أن يقوم بهذا الواجب، فلو مر إنسان على إنسان يعصي الله عز وجل في كبيرة من الكبائر أو صغيرة من الصغائر لا يقول: أنا لست بعالِم، بل هذه الكبيرة أو هذه الصغيرة يستوي في النهي عنها الصغير والكبير، ليس الأمر بعسير على إنسان تراه يشرب حراماً أن تقول له: اتق الله يا هذا، اتق الله فيما تشرب، أو ترى إنساناً يأكل حراماً تقول له: اتق الله فيما تأكل، أو ترى إنساناً ينتهك حرمةً لله ليس بالصعب أن تذكره بالله، فلربما كلمة تكلمت بها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم تلق لها بالاً كتب الله لك بها رضواناً لا سخط بعده، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه)، تمر عليه وتقول له: اتق الله! بقلب يتمزق غيرةً على دين الله، يكتب الله لك بها رضاً لا سخط بعده.
فالله الله في هذا الواجب العظيم، الله الله في رسالة أفضل الأنبياء والمرسلين، إذا تخاذلنا عن هذا الدين، من الذي يقوم به؟! وإذا تقاعسنا ولم تكن عندنا غيرة على هذا الدين، من الذي يغار على سنة سيد المرسلين وإمام المتقين صلوات الله وسلامه عليه؟! والخوف كل الخوف أننا إذا تقاعسنا، سيبدل الله عز وجل من هو خير منا، سيبدل الأمة بمن هو أفضل منا، والله إذا تقاعس طلاب العلم أورث الله الأمة طلاب علم صادقين خيراً ممن تقاعس، وإذا تقاعس العلماء أبدل الله علماء ربانيين خيراً ممن تقاعس {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ}[محمد:٣٨]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}[المائدة:٥٤] فالله الله أن يستبدل الله بنا قوماً ولا نضره شيئاً، فينبغي للإنسان أن يحيي هذا الواجب في قلبه وأن يحيي هذا الفرض في نفسه وأن ينطلق مشعل هداية.