للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرحمة واللين]

ثانيها: الرحمة: فلا إيثار إلا برحمة، ولذلك لا يمكن أن يكون الإنسان مؤثراً إلا إذا رزقه الله قلباً رقيقاً ليناً رحيماً، وإذا رَحِمَه الله من قسوة القلوب، فأصبح قلبُه يتفطر للأشجان والأحزان، فلا إيثار إلا بهذه الرحمة التي سماها الله: رحمة، وهي لين القلوب.

فما أَبْعَدَ مَن قَسا قلبُه عن الإيثار! وقاسي القلب لا يعرف الإيثار إلى قلبه سبيلاً ولا دليلاً.

أما لَيِّن القلب فما أحراه بالإيثار! فلِيْنُ القلب الذي هو رحمةٌ من الله علام الغيوب امتنَّ الله بها على نبي الهدى صلى الله عليه وسلم، فقال جل جلاله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:١٥٩].

إن الإيثار يحتاج إلى قلبٍ رقيق، يحتاج إلى صاحبٍ صِدِّيق رفيق، وإلى ذلك القلب الذي ما إن يبثُّ إليه المهموم هَمَّه حتى يتفطر حزناً وألماً، يحتاج إلى قلبٍ يتسع لهموم المسلمين وغمومهم، وإلى قلبٍ صاحبُه إذا ابتدره المصاب بشكواه دَمَعَت قبل النهاية عيناه، فالإيثار يحتاج إلى قلبٍ رقيقٍ رفيق.

فاسألوا الله لين القلوب؛ فَبِهِ يُرْحَم الإنسان، وبه يُكْرَم بالله الكريم المنان.

سلوا الله لين القلوب، فبه يُكْسَى العاري، وبه يُطْعَم الجائع، وبه يُمْسَح على رأس اليتيم، وبه يغدو العبد إلى المسكين، وبه يُفَرِّج كربات المنكوبين والمعسِرين بإذن الله رب العالمين.

سَلِ الله القلب الرقيق، فإن الله إذا أكرمك بهذا اللين، وأكرمك بهذا القلب الرفيق فتح لك أبواب رحمته، وفتح لك أبواب الخير منه، فلا ترى منكوباً إلا أعنته، ولا ترى مهموماً مغموماً إلا واسَيته، كن رحيماً بعباد الله، كن ليناً بعباد الله المؤمنين، فإن الله وصف المؤمنين بقوله: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:٢٩].

فلا إيمان إلا برحمة، وإذا انتُزِعت الرحمة من القلوب فمَن يسمع ويُصغي لشكوى الأيتام والأرامل والبائسين؟! إذا نُزِعت الرحمة من القلوب، فمن يسمع صيحات المتأوهين ونكبات المفجوعين؟! سل الله أن يجعلك رحيماً، فإن الله يرحم الرحماء.

سل الله أن يجعلك رحيماً فإن الله يعطف على الرحماء.

سل الله أن يجعلك رحيماً فكم لَطَفَ اللهُ بالرحماء! وكم صرف عنهم من شدائد الدنيا وأهوالها ونكباتها لَمَّا رحموا عباده وما ينتظرهم في الآخرة من رحمات القبور، ورحمات هول البعث والنشور أجلُّ وأسمى وأسنى.

فالرحمة واللين إذا دخلتا إلى القلب أصبح صاحبهما يتوهج حنيناً وشوقاً إلى الأعمال الصالحة، يريد مرضاة الله، يبيع نفسه لله مبتغياً الأجر والمثوبة من الله، قال الله في هؤلاء: {وَمِنَ النَّاسِ.

} [البقرة:٢٠٧] أي: ليس كل الناس {ومَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:٢٠٧].

{يَشْرِي نَفْسَهُ} [البقرة:٢٠٧] أي: يبيع نفسه.

{ابْتِغَاءَ} [البقرة:٢٠٧] أي: طلب مرضاة الله.

يبيع نفسه ويبيع ليله ويبيع نهاره ويبيع تجارته فيأتيه الشيطان فيقول له: هذا مالٌ سعيتَ عليه آناء الليل والنهار، فهو تجارتك وأموالك التي كدحت عليها ونصبت من جمعها، ثم تعطيها لخامل لَمْ يسعَ في تحصيلها؟! فجاهد وصابر واصطبر، وأعطِ لوجه الله جل جلاله إيماناً وتسليماً، فإذا سكنت الرحمة في القلوب فسل الله أن يرزقك القلب الرحيم، فإن الله إذا رزق العبد قلباً رحيماً عَفَّ وكَفَّ عن أذية المسلمين، وكان صاحبه أحرص ما يكون على نفع عباد الله المؤمنين.

بهذه الرحمة تصغي إلى من أراد أن يحدِّثك.

وبهذه الرحمة يألفك الكبير ويألفك الصغير، حتى إن المهموم يأتيك، ولا يجد بينك وبينه حاجزاً برحمتك به.

الرحمة هي الطريق للإيثار.