[الوقفة الثانية: العظات والعبر التي يستفيدها الحاج من لبس الإحرام]
أما الوقفة الثانية: فبعد لحظات يسيرة فارقت الأهل والإخوان، وودعت الأحباب والخلان، فإذا بأوامر الشرع تأتيك عند الميقات، انزع ثيابك، وتجرد عن مخيطك، واغتسل لحجك وعمرتك؛ فاستجبت ولبيت، وقلت: سمعاً وطاعة.
فغسلت واغتسلت وأزلت عنك الثياب.
وما إن رفعت الثوب عن الجسد حتى تحركت في النفس أشجانها، وانبعثت في القلوب أحزانها، اليوم أزيل لباسي بنفسي، فكيف بغدٍ إذا أزيل عني لباسي؟! اليوم أرفع ثوبي بنفسي وأجرد عني المخيط، فكيف بي غداً إذا جردت من الثياب، وولجت من ذلك الباب مصيراً إلى رب الأرباب؟! اليوم أغسل نفسي، فكيف بي غداً إذ يغسلونني؟! وكيف بي إذ يكفنونني؟! وما هي إلا لحظات حتى تلبس الإزار وتنزع المخيط، وتنخرط مع تلك الجماعات؛ تلبية توحيداً تكبيراً تمجيداً، لا إله إلا الله! ما أعزها من خُطىً عند الله، وما أكرمها من وفود على الله، منذ أن تجردت من لباسك وأصبحت في عداد المحرمين، كأن هيئتك تقول لك: الآن أصبحت مع المحرمين، وغداً ستصير في عداد المغتربين.
كما أن صاحب الإحرام تحظر عليه محظورات الإحرام، فلا طيب ولا متعة من الأمور المرفهة، كذلك إذا أوسد في لحده وأودع في قبره، فكأنه في المرحلة الثانية بعد لبس إزاره وردائه، فالله أكبر! ما أجلها من عظات، والله أكبر! ما أعظمها من آيات، دلت وشهدت بوحدانية رب البريات، فسارت الخطى على تلك الأرض، التي والله ما رفعت قدماً ولا حططت أخرى إلا سطرت في ديوانك، ولقيت بها رباً يبيض بها الوجوه إذا لقيه أصحابها.